Al Jazirah NewsPaper Saturday  21/08/2010 G Issue 13841
السبت 11 رمضان 1431   العدد  13841
 
غازي الذي غزا.. البحث عن ذكريات
د. علي بن شويل القرني

 

أول لقاء شخصي تشرفت به بلقاء معالي الدكتور غازي القصيبي كان في لندن عام 1992م عندما كان سفيراً لدى المملكة المتحدة وكنت لتوي قادماً للعمل مساعداً للملحق الثقافي في بريطانيا..

وجمعتنا مناسبة رتّب لها الأستاذ الفاضل عبد الله الناصر الملحق الثقافي هناك لتوديع زميل واستقبالي كزميل جديد، وكان ذلك بحضور الدكتور غازي القصيبي.. جاء غازي يرحمه الله وجلس معنا، وسألنا عن كل شيء، وتناول الغداء معنا، والتقطنا الصور التذكارية مع بعضنا.. كان لقاءً رغم أنه امتد لفترة أكثر من ساعة، إلا أنه مرّ سريعاً مع حسن الكلام وطيب الأحاديث.. وغازي القصيبي شخصية موسوعية قرأ في كل موضوع، وأبحر في كل مجال.. التقى القصيبي بموظفي وموظفات المكتب الثقافي من السعوديين وغيرهم وتبادل معهم ومعنا الأحاديث التي استمتعنا بها جميعاً..

ثم تعرفت عليه أكثر في أربعائياته التي كانت تنظم في رحاب السفارة، ويحضرها ضيوف لندن من الشخصيات السعودية الرسمية وغير الرسمية إضافة إلى بعض من منسوبي السفارة وباقي الملحقيات السعودية في لندن.. وهناك أحاديث متنوعة تدور، ونقاشات معمقة يتم تناولها في مثل هذه الأمسيات السعودية.. وأحسب أنه أول سفير سعودي نظّم مثل هذه الديوانيات، وحالياً أصبحت بتوجيه ملكي جزءاً من لقاءات منتظمة يحرص عليها السفراء وأركان الملحقيات والمكاتب السعودية التابعة لها.. في محاولة لفتح الحوار واستقبال ومتابعة هموم وقضايا ومشاكل الجاليات السعودية في الخارج.. وفي لندن كان آخر لقاء بيني وبين الدكتور القصيبي محاولته في إثنائي عن العودة إلى الجامعة ورغبته التي ألحّ فيها أن أبقى هناك، حيث كان يحتاجني في إدارة إحدى الجهات التابعة للسفارة في لندن.. ولكنني اعتذرت منه وقدّرت ذلك كثيراً..

وعندما عاد هو إلى أرض الوطن من مجموعة أعمال ومسئوليات كثيرة خارج الوطن، التقيت به أكثر من مرة، كان دائماً حاضر البديهة، سريع التعبير، سريع الاسترجاع عن كل شيء جمع بينه وبين الأشخاص الآخرين.. وغازي القصيبي سواءً كنت قريباً منه أو بعيداً، فهو شخصية معروفة، يفرض نفسه بقوة على الإعلام والحضور والمناسبات.. فشخصيته غير عادية بكل المقاييس، ويسترعي اهتمام الجميع من مسئولين كبار أو موظفين أو زوار أو أصدقاء..

ولا شك أن عمله وزيراً للعمل كان من أصعب الأمور، لأنها شكّلت تحدياً ليس له ولكن للمجتمع السعودي، فمهمته كانت صعبة في كونه يريد أن يحرر الوظائف التي تقع تحت سيطرة العمالة الأجنبية، ويسلمها لشباب سعودي.. وهذه مهمة شاقة وصعبة، لا سيما أنه قد اصطدم بعقبات وصعوبات وقفت ضده لمصالحها التي تتمثل في قطاع خاص غير واعٍ لمسئوليات وطنية.. ولكنه على الرغم من ذلك نجح في كثير من الأمور.. وسبقه المرض ثم الموت في بعض منها..

ويبقى أن أشير هنا إلى أن غازي القصيبي قد رحل عنا، ولكنه سيظل صورة مشرقة عن هذا الوطن، وصورة مشرقة لمسئول واعٍ يدرك دوره الوطني ومسئولياته الاجتماعية.. ولعلي أتذكر مواقف معينة ستظل راسخة في ذهني عن معالي الدكتور غازي يرحمه الله:

(صورته وهو يضع قبعة الطباخين على رأسه بعد أن لبس ملابس الطهاة مع شباب سعودي كان ينهي دورات تدريبية في الطهو للعمل في فنادق أو مطاعم، عمل هذا ليشجع الشباب السعودي للانخراط بمثل هذه المهن.. صورته لا تزال في ذاكرتي..).

تصريحه عندما هدّد بعض رجال الأعمال بأخذ استثماراتهم ومصانعهم وشركاتهم إلى خارج المملكة، وقال بأنه سيكون على رأس المودعين لهم في المطار إذا رغبوا في ذلك.. هذا تصريح له معنى كبير، كما أنه يعكس رمزية قوية في عدم اكتراثه لمثل هذا التهديد من بعض رجال الأعمال..

وموقف آخر.. عندما كنت معه في لندن.. سألته ذات مرة في ليلة من ليالي الانتخابات الأمريكية عن كونه سيسهر حتى يعرف من سيفوز في تلك الانتخابات.. ولكنه صدمني عندما قال إن الأمور التي لا يكون لي دور فيها - وكان يقصد الانتخابات الأمريكية - لا أحرص على انتظار نتائجها.. فليس لي أي دور في التأثير عليها.. وقال بأن نتائج الانتخابات الأمريكية لن تؤثر على برنامجه المعتاد ومواعيد نومه..

وأخيراً، وفي لندن أيضاً.. أحال لنا بالملحقية الثقافية السفير غازي القصيبي خطاباً من إحدى محطات التلفزة البريطانية يطلبون فيه حضور شخصية سعودية لبرنامج تلفزيوني.. أحد ضيوفه شخصية ذات قدرة عالية في التسويق ويستطيع أن يسوق أي شيء، بما في ذلك بيع الرمال على السعوديين.. وتشاورنا في الموضوع، ولكن قرّرنا عدم المشاركة في البرنامج ربما خشية أن تعود الشخصية المشارِكة ومعها كيس من الرمل قد ابتاعته من ذلك المسوق التلفزيوني.. وقد أحالها الدكتور غازي إلينا للطرافة من ناحية، وللفائدة الإعلامية من مثل هذه الموضوعات..

الدكتور غازي القصيبي عاش وهو يقرأ، وعاش وهو يكتب، وعاش وهو يعمل.. ولكنه مات وهو يفكر، وهو يقرأ وهو يكتب.. حتى وهو على السرير الأبيض كان الدكتور غازي يرحمه الله.. يقرأ ويكتب ويعد مؤلفه الجديد..

المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود


alkami@ksu.edu.sa

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد