أتذكر جيداً إطلالة غازي القصيبي علينا في المبني المشترك لكليتي الآداب والعلوم الإدارية بحي الملز في الرياض، عندما كان محاضراً في الجامعة، وكنت وقتها في بداية دراستي الجامعية، وبعد وقت عاد الدكتور القصيبي إلى أرض الوطن بعد حصوله على الدكتوراه، وتكررت إطلالته بين وقت وآخر على كلية الآداب للتشاور مع زملائه خصوصاً بعد أن أصبح عميداً لكلية العلوم الإدارية. غير أن بقاء الدكتور غازي في الجامعة لم يدم طويلاً، فقد بدأت رحلته مع المهمات الصعبة في وقت كانت المملكة تشهد مرحلة جديدة مع التحديث والتطوير والتغيير، وهي الفترة التي أطلق عليها اسم (الطفرة). لا أدّعي أن لي صحبة أو صداقة مع الدكتور غازي القصيبي، لكني عرفته وتعاملت معه وقرأت له كثيراً وتعلمت منه أشياء كثيرة. كان غازي على الدوام في دائرة الضوء وأسلوبه في العمل الحكومي مختلف تماماً عن بقية الوزراء في الدولة، فلم يعزل نفسه عن المواطنين فهم المستفيد الأول من خلال المواقع التي تسلمها بتوجيه القيادة التي وضعت ثقتها فيه بكل طمأنينة. أتذكر بعد عودتي من دراساتي العليا في بريطانيا، أن القصيبي كان حديث المجالس منهم المتفائل ومنهم الناقم والناقد. تابعنا حركة القصيبي الدؤوبة في مختلف مناطق المملكة، يخطط وينفذ لمشاريع الدولة الحيوية في مجال الكهرباء والمياه والتصنيع. أما فترة تسلمه مهام وزارة الصحة فقد أعطى فيها كل خبراته الإدارية، ووضع بصمات التغيير معتمداً في ذلك على الصلاحيات التي منحتها له الدولة، وساعده في ذلك علمه في القانون والتعاليم الشرعية في التعامل مع أرواح الناس وتلمس حاجاتهم، فمن منا لا يعرف عن رحلاته المكوكية للاطلاع على الواقع الصحي ميدانياً في مختلف مناطق المملكة، وزياراته الليلية والفجائية للمستشفيات والمستوصفات الحكومية والأهلية، ليتعرف على أحوال المرضى والواقع الصحي، وواقع تجارة وتصنيع الأدوية والمعدات والتجهيزات الطبية.
|
وعندما انتقل الدكتور غازي إلى العمل الدبلوماسي (ولمدة عشرين عاماً) سفيراً في البحرين ثم في بريطانيا، نجده يضع أسلوباً ونهجاً جديداً في التعامل الخلاق والمثالي، فكان الوالد الحنون على العاملين معه وعلى بني جلدته من أبناء الوطن المقيمين والزائرين على حد سواء. فأصبحت سفارتنا في البحرين وفي لندن مشرعة الأبواب، وحدد السفير برنامجاً أسبوعياً يلتقي فيه مع فريق السفارة وممثليات الدولة الأخرى، والمبتعثين السعوديين وكل من له حاجة، وكانت اللقاءات تشملها دروس في الفكر والأدب ومناقشات هادفة.. في حياة الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) أصدر توجيهاً للجمعية السعودية للثقافة والفنون برئاسة الأستاذ محمد بن أحمد الشدي، بتنفيذ برنامج ثقافي مكثف في بريطانيا يستمر لمدة تزيد على العام، وتحديداً في عام (1414هـ)، بهدف التعريف بالمواهب الأدبية والفكرية السعودية على مدار السنة، شاملة التراث والحضارة والآثار والإعلام، والقضايا التاريخية، ورعاية الشباب، والثقافة والأدب والفن السعودي، والمعارض المتنوعة. تشرفت بتكليف الأمير فيصل بأن أكون منسقاً لذلك البرنامج مع معالي الدكتور غازي في بداية عمله سفيراً في المملكة المتحدة. اشتمل البرنامج على معارض للكتب والفنون التشكيلية ومحاضرات متنوعة قدمها عدد من العلماء ومن رجال الفكر والثقافة في بلادنا، وكانت المحاضرات والندوات موزعة على عدة أشهر وتقام بالتناوب في مبنى السفارة وفي مقر الملحقية الثقافية والمركز الإعلامي وأكاديمية الملك فهد. لقد أدهشنا حرص الدكتور غازي على حضور كل الفعاليات، واستقطب لها الأدباء والكتاب والمفكرين ومن الجامعات والمهتمين من مختلف المشارب لحضور المحاضرات والندوات. أعطى الدكتور القصيبي صورة واقعية عن المملكة وبجهوده أصبحت الكتب والنشرات الرخيصة التي كان يروجها المنتفعون للنيل من المملكة في كساد، وكما قال لي القصيبي شخصياً أن تلك الكتب كانت تتصدر نوافذ وأرفف المكتبات التجارية بدأت تتوارى عن الأنظار. وقف الدكتور غازي بالمرصاد على كل ما كانت تنشره الصحافة البريطانية من أخبار ومقالات مغلوطة عن المملكة وسياستها، وكان يرد عليهم بلغة رصينة وحجج وبراهين قوية. وبالرغم من أعباء القصيبي الكثيرة الإدارية والدبلوماسية فإنه لم ينقطع عن المنابر الأدبية والمنتديات الثقافية، وقد منحه الله تعالى ملكة في الكتابة الأدبية والشعرية، فكان وراقاً ماهراً وقارئاً نهماً، ومما يبعث على الحيرة هو القدرة المتناهية في استثمار الوقت، والالتزام بأعماله اليومية، والمتطلبات البروتوكولية والاجتماعية. كان القصيبي على الدوام حاضر البديهة متفائلاً، ولم يشاهده أحد في يوم من الأيام متوتراً أو متذمراً، بالرغم من كل المسؤوليات والهموم والمنغصات التي واجهها في حياته العلمية والعملية والإدارية، فقد كانت بشاشته وضحكاته المجلجلة المصحوبة بقفشات ونوادر جميلة إحدى الخصال التي تميز بها.
|
وعندما غادر القصيبي الوظيفة الدبلوماسية، كلفه ولي الأمر بحقيبة وزارة العمل، هذه الوزارة كما يبدو لي، لا ترحم من يقوم على شؤونها، فهي وزارة المتاعب، حاول القصيبي وضع الأسس لسياسة الدولة في رسم وتنفيذ خطة قوية لتمكين المواطن من العمل الشريف وتوفير لقمة العيش من عرق جبينه، وسخر كل خبراته المتراكمة ليجعل من هذه الوزارة بوابة للرزق والكسب الحلال على مستوى الوطن.
|
لقد رحل القصيبي عن هذه الدنيا فخوراً بما قدم لدينه ووطنه، وكسب ثقة القادة الملوك: فيصل وخالد وفهد وعبدالله، فكانت ثقتهم في مكانها، وكان نعم العامل الأمين والوزير المخلص وأهلاً للثقة التي مكنته من تحقيق هذه النجاحات التي انعكست على الوطن والمواطن، وكسب حب الجميع من مسؤولين ومن عامة الناس وخاصتهم. ولئن رحل عنا غازي، فإن سيرته ستبقى عطرة في ذاكرة الوطن، وكل المواقع التي عمل فيها وصال وجال، لن تنساه الصحافة والمنتديات الأدبية والثقافية والإذاعة والتلفزيون، ولن ننسى مواقفه القومية والوطنية والإنسانية التي خطها بقلمه ورسمها شعراً ونثراً، ولن ننسى تصديه بفكره وقلمه للحملات الصهيونية.
|
لن ننسى غيرته الوطنية وتصديه لمن حاولوا الترويج للفتنة، فكان لهم بالمرصاد، بفكره وعلمه وبحجج صارمة وقوية من الكتاب والسنة.
|
لن تنساه البحرين التي أحبها، ولن تنساه الكويت التي دافع عنها بفكره وقلمه وقت الكارثة:
|
أقسمت يا كويت برب هذا البيت |
سترجعين من خنادق الظلام |
وستبقي قصيدته الوطنية الرائعة (أجل نحن الحجاز ونجد)، في أذهان الصغار والكبار من أبناء الوطن، لن تنساه صبرا وشاتيلا وأطفال الحجارة وأهلنا في فلسطين.
|
لن تنساه الرياض التي أحبها وأحبته، وسقاها بشعره العذب:
|
وكيف إلى الرياض أسوقُ نفسِ |
ولي مع خاطري حربٌ ضروسِ |
بلى سأعود ما جدوى حياتي |
إذا الأجساد ملتها النفوسِ |
ها قد ترجلت يا غازي وأسلمت روحك إلى بارئها و وري جثمانك الثرى في مدينة المجد الرياض..
|
أنت الرياض جناح مدّ هامته |
إلى الذرى وجناح عانق الشهبا |
رحمك الله يا غازي رحمة واسعة، ونسأل الله سبحانه أن يغفر له ويرحمه رحمة واسعة وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من أعمال جليلة لدينه ومليكه ووطنه، ونقدم عزاءنا لأولاده وعائلته وللوطن وكل محبيه في داخل المملكة وخارجها. وإننا والله لفراقك لمحزونون.
|
(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
|
|