يوم الخميس الموافق 2-9-1431هـ لن يغيب عني ولو قدّر الله أن تمر بي سنين عدداً، ففيه فقدت أخي أبا مساعد، فلقد ودعته من دار الفناء إلى دار البقاء والخلود. نعم فقدت أخاً عزيزاً وصديقاً حميماً وقريباً واصلاً، ودعته من لا تضيع ودائعه، أسأل الله أن يرزقه الخلود في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
لقد تفكرت في الحياة والأحياء فرأيت مولوداً يستهل صارخاً، ورأيت مريضاً يلقى ربه بعد معاناة مع المرض، ورأيت معافى ينتقل إلى عالم الآخرة وهو صحيح معافى، وهكذا فالأيام معدودة والآجال محدودة والسعيد من يأخذ الدرس ويعتبر ويقدم لنفسه زاداً أحوج ما يكون إليه مادام أن ذلك بإمكانه وهو قادر عليه، فذلك قمة الذكاء والعقل، وفي الحديث «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» أي العاقل من حاسب نفسه.
لقد بذل أبناء الفقيد -وفقهم الله- ما يستطيعونه من الأسباب العلاجية، واستنفدوا كل الحيل، ولكن الأمر كما قيل:
إن الطبيب بطبه ودوائه
لا يستطيع دفاع محذور أتى
لقد صاحبته عشرات السنين فإذا قلت الآن شيئاً من صفاته فأرجو ألا أكون متهماً:
طوى الموت أسباب المحاباة بيننا فلست وإن أطنبت فيه بمتهم. عرفته صابراً محتسباً متجلداً لا يشكو حاله إلا على خالقه. كان مريضاً منذ 24 سنة وكان يجتهد في إخفاء معاناته حرصاً منه على أن لا يشق على أهله وأولاده.
على أنه والسقم يبري عظامه يحاول أن يخفيه عنهم ويستر.
كما عرفته باراً بوالديه، واصلاً لرحمه، محباً لزيارة المرضى ومن أقعدهم الكبر، وكم كان يفرح ويبتهج عندما يزور قريباً أو مريضاً أو رجلاً كبيراً.
وعرفته محباً للخير وأهله، محباً للعلماء والدعاة، يدعو لهم دائماً بظهر الغيب. وعرفته كارهاً للاستدانة فلا يقبل أن يكون عليه دين ولو كان يسيراً، وكان كثيراً ما يتأسف على الذين يتساهلون في الديون ولو لم يكن لديهم حاجات ضرورية.
وعرفته محباً للديار المقدسة مكة والمدينة، فقد كان يحس هناك بلذة وارتياح وسعادة وطمأنينة.
وعرفته على عادة والده -رحمه الله- يفتح منزله بعد مغرب كل يوم للزائرين والضيوف ويقدم لهم ما يقدره الله عز وجل.
وعرفته حريصاً على المواظبة على الإمامة فقد أمَّ المصلين في المسجد الذي بناه والده -رحمه الله- سنوات كثيرة يقل فيها غيابه، وإذا غاب أوكل بمهمة الإمامة من يقوم بها.
كان رحمه الله يشتغل بمهنة التعليم، فقد كان معلماً منذ عام 1393هـ، وبعد أن أنهكه المرض طلب الإحالة للتقاعد عام 1419هـ.
ألا ربّ أعوام سحبت ذيولها
سعيداً مع الأحباب في شاهق أشم
هكذا كانت أعوامي مع أخي أحمد بن مساعد الحمد، ولكن الدنيا جمة المصائب ومُرّة المشارب ومن صفاتها أنها لا يدوم سرورها؛ وصدق من قال: لا أصدق من الرثاء. عجباً للموت الذي سيتجرع منه كل أحد شربة غير سائغة.
الموت كأس على كل الورى جاري
وليس يبقى بلا موت سوى الباري
الموت لا يقبل العوض ولا الفداء وإلا لكنت افتديت وأغليت الفداء وما بخلت.
ولو أن هذا الموت يقبل فدية
فديناه أموالاً كراماً وأنفسا
ومع شدة الموت وهوله فإنه أهون مما بعده.
هو الموت لا منجى من الموت والذي
نحاذر بعد الموت أنكى وأفظع
في أيام أخي الخمسة الأخيرة قرر الأطباء إدخاله العناية المركزة بشكل فوري ليجُرى له ما قضاه الله وقدّره، إننا أيها القراء الكرام:
نعَلل بالدواء إذا مرضنا
وهل يشفي من الموت الدواء؟
ونختار الطبيب وهل طبيب
يؤخر ما يقدّمه القضاء؟
لقد كانت تلك الأيام الخمسة أياماً عصيبة على أهله وذويه، ألا ما أضعف الإنسان وما أوهن حبله وكأن الواحد منهم يردد مع الشاعر قوله:
كأن بلاد الله في ضيق خاتم
علي فما تزداد طولاً ولا عرضاً
ولكن الله بحوله وقوته ثبّتهم وكأني بذويه خافوا أن تجتمع عليهم مصيبتان: فقد والدهم، وفقد الأجر.
«إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور».
لقد مات وغاب عني كيانه وعطفه وحنانه وأصبحت كما قال البارودي:
ولم يبق إلا ذكريات شجية
وطيف يواتيني إذا الطرف هوّما
لقد بقيت أهيم في هذه الدنيا وإن كثر حولي الأحياء وإنه لبقاء إلى حين.
فلئن بقيتُ وقد هلكتَ فإن لي
أجلاً وإن لم أحصه معدوداً
ومع البقاء فإنني بك لاحق
من عن قريب لا أراه بعيداً
وبعد: فأحمد الله أن خلّف أخي أبناء بررة -أحسبهم كذلك ولا أزكي على الله أحداً- رزقهم الله وأهليهم الصبر والسلوان، وجمعهم به بعد عمر طويل وحسن عمل في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
محافظة الزلفي