حذو القول الشائع «رزق الهبل على المجانين».. أقول: حرية المساجين على يد الصنّاع.. ولئن كنت قد ناقشت القول المشاع قبلا..,
فإنني أسرد فيما أقول هنا إمعاناً في المعنى، واستقبالاً للدلالة...فالمساجين بين جدران أربعة وأبواب مغفلة، ونوافذ محكمة، لن يكون بوسعهم أن يغادروها دون مفاتيح يسهر على صناعتها الحدادون، وربما البناؤون إن كان ثمة حاجة لصناعة يقيمونها أو ينقضونها، والنجارون عند استدعاء مخارطهم ومسناتهم ومناشيرهم..
وعلى قدر استخفاف الناس في أعرافهم بالصنعة وصنّاعها، إلا أنها بهم محور انطلاق السجناء من سجونهم.. تلك الحرية الحلم، بل الغاية والمطمح..
ولنقس على ذلك أولئك المساجين في جهلهم.. الذين يقيمون على أنفسهم الجدران العالية والأبواب المغلقة ويضربون على حريتهم سجناً مؤبداً من الظلمة والعتمة، لا يمكنهم الانطلاق من معاقلها لفسحات النور والمعرفة دون صناعة صنّاع أبجدية ومنهاج الإضاءة والإنارة والإشارات ورسم الطرق للخروج، بل الخلوص من قيود جهلهم...
والجهل الراهن يعيث بالإنسان المعاصر سجناً وتضييقاً ومحدودية وهو يحسب أنه يعيش في أزهى مراحل وحقب التنوير والمعرفة والقفز على ماض يحسب أنه لا بد أن يقطع كل صلة له ببقاياه المتخلفة، ليزهو ويتقدم، لينتمي لحاضر يظن أن الالتحام بكل معطياته سوف يربطه بكل أسبابه تقدماً.. فيما هو يحصد في زمن قياسي نواتج سالبة لهذا الإغراق في سجن نفسه داخل هذا الواقع والغوص في أوهامه الكبرى، متجاوزين جوانبه المشرقة المتفق عليها..
مما يحصده من أوهام هذه الأمراض التي أشيعت في أنماط الغذاء ولم تقتصر على أغذية الأجساد، بل شملت أغذية العقول والأرواح.., وتلك العادات السلوكية التي أخذت بالإنسان تفتت نخوته وعفته وكرامته وصدقه، فهو يبرر للرشوة والربا، وللمذلة والسؤال، وللكذب والتحايل، وللأنانية والذاتية، وللأخذ دون إعطاء، ولسطوة اليد واللسان، وللتخلي عن المروءات الكثيرة.. وتلك التي جعلت الفرد يتقافز خارج أسيجة عقيدته في مظهره ومخبره من أجل رداء لامع صقيل يقتعد به أي مجلس ويستقل به أي درب...
مساجين هؤلاء...
سجناء أوهام، فهم مكبلون بأسيجة ظنون، وأحلام سراب.. يحتاجون لصنّاع يطلقونهم لحرية الفهم، ونور المعرفة، ويردونهم لمظان الوعي ومرتشف الحقيقة..
هذا السجن الكبير الذي ضربه الوجه الظاهر للمتغيّرات الحياتية، وأقام أسواره وأحكم أقفاله التداخل بين الماء المالح والعذب... وزج الإنسان فيه ذاته بلا هوادة...لا بد له من صنّاع يحترفون ما يخرجون به هذا الإنسان منه.. ويطلقون به سراحه إلى فضاء نقي خال من كل الأدواء والأمراض والجهالة والظلام.. وعتماتها.