البطالة والمرض والفقر، ثالوث تستقيم حياة البؤس والشقى بهم ولا يقل أحدهم أهمية عن الآخر فيما يوصلوا إليه من نتائج وقد تحدثت كثيراً عن البطالة وكيف لها أن تكون معول هدم وهي التي تنشر الجريمة وتزيدها في
ظل الفراغ الذي يعيشه العاطل عن العمل وحاجته ليس فقط للمال من أجل الحياة بل حاجته للعمل لإثبات الذات ومنحها ما تستحق من قيمه إنسانية، وقد يبدو من خلال هذه المقدمة أنني أحمل تصورا رفضيا لأصل وسبب الجريمة واضعاً إياه في دائرة الآخر البعيد، ضمن رؤية أيديولوجية صارمة تُحمل البطالة أو العطالة والفقر والمرض مآل الأمور السلبية ضمن فلسفة فكرية أحادية الجانب. لكنني لا أزال مصراً على تأكيد سلبية إفرازات الحالة القاتلة التي يعيشها شاب في مقتبل عمره وقد جمع ما يستطيع من علم ومعرفة للحصول على ما يوفر له ولمن يعول حياة كريمة تخلو من المرض والفقر.
لا شك أن الاستقرار الذهني يقي الإنسان الكثير من المشكلات سواءً المرضية منها أو النفسية ولا يتوافر ذلك الاستقرار دون أن يكون له وظيفة كريمة توفر له ولمن يعول حياة آمنه لا يحتاج معها أن يمد يده للغير، وأعني بالوظيفة الكريمة التي يستطيع من خلال مدخولها المادي أن يوفر حياة كريمة له ولمن يعول في ظل الارتفاع الإجرامي في أسعار المواد الإستهلاكية اليومية والإرتفاع الجنوني في أسعار المنازل الجاهزة أو في أسعار مواد البناء إن كان الخيار البناء وليس الشراء.
يتحدث اليوم كثير من الشباب ممن حباهم الله القدرة على الزواج والإنجاب وهم موظفون، يتحدثون عن الكيفية التي يستطيعون من خلالها توفير جزء من مرتباتهم لشراء منزل العمر في ظل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية فضلاً عن ارتفاع إيجارات المنازل بشكل جنوني لم يسبق له مثيل، ويتحدث آخرون ممن بلغوا منتصف العمر عن آمالهم في الزواج في ظل ما سبق ذكره من ظروف مادية.
اليوم نحن أمام قضية من جوانب ثلاثة مختلفة فالبطالة الضاربة أطنابها في كل منزل ومكان وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية والعقار سواءً إيجار أو ملك وارتفاع أسعار الخدمات الطبية بشكل غير طبيعي، تلكم ثلاثة كاملة لا يمكن أن نسعى لاستئصال الجريمة في ظل استمرار وجودهم، ولا يمكن معالجة أحدهم دون النظر للآخر، ولا يمكن أن نطالب شبابنا اليوم باحترام قوانين معينة وعدم خرقها وهم فاقدون لأهم أسباب العيش الكريم.
تلك الجريمة التي يصنفها كثيرون بمفهومها التقليدي البريء ضمن فعل الشر الذي يقوم به إنسان بغية الوصول لهدف معين سواءً كان مدركاً لما يقوم به أو غير مدرك، وهي أي الجريمة بمعناها القاموسي النفسي والاجتماعي، السلوك الإنساني الجنائي الذي يقوم به الإنسان وهو فاقدٌ لجزء أو كل من وعيه الإدراكي ويصبح تصرفه خارجاً عن القانون وغير مقبول ولا مألوف اجتماعياً، وبالتالي تكون انعكاسات سلوكه السلبي ذلك بحق نفسه أو مجتمعه. ويُعرف علم النفس الجريمة بأنها إشباع لغريزة إنسانية بطريقه شاذة لا يقوم به الفرد العادي في إرضاء الغريزة نفسها وهذا الشذوذ في الإشباع يصاحبه علة أو أكثر في الصحة النفسية وصادف وقت ارتكاب الجريمة انهيار في القيم والغرائز السامية. أو الجريمة هي نتاج للصراع بين غريزة الذات - أي نزعة التفوق - والشعور الاجتماعي. وللجريمة أسباب نفسية واجتماعية قد لا يكون المجال مناسباً لسردها، لكن علينا أن نؤكد أن ما من جريمة تُرتكب إلا وهناك سبباً، وقد يكون من تلك الأسباب الدافعة لارتكاب الجريمة على سبيل الذكر وليس الحصر، الحاجة أو الانتقام أو السيطرة وتلك عوامل مجتمعة أو منفردة تتوافر كدوافع لدى العاطل عن العمل أو لدى الموظف الذي لا يستطيع توفير حياة معقولة له ولأسرته أو للمريض الذي أعاقه المرض عن توفير تلك الحياة لأسرته وهو الذي لا يستطيع معالجة مرضه مادياً، هؤلاء فقدوا أو ضعُف لديهم الوازع الديني والأخلاقي وقد أشرت سابقاً لغياب الإدراك وتعطيل الوازع النفسي الذي يقف بين الإنسان وقيامه بفعل خارج عن القانون.
كثيرة هي الدول التي تعاني اليوم من ارتفاع معدلات الجريمة بأشكالها وأنواعها المختلفة وأسبابها ودوافعها المتعددة، وباختلاف أنواع وأشكال الجريمة، فإن ارتفاع معدلاتها وتزايدها لاشك يهدد أمن تلك الدول ويدفعها للأخذ بالرادع الأمني الذي يُشكل هو الآخر مبعثاً للشعور بعدم الأمان لدى المواطن العادي، ما يزيد أخذه للاحتياطات اللازمة خوفاً من استفحال الأمر وانعكاسه عليه وعلى بيته وعائلته ومصالحه.
ملخص القول: إن لم تتم معالجة متكاملة لمجمل هذه القضايا، سنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع مبتغاه أو جدواه، بما ينسجم مع متطلبات تقدم وتنمية وتطور البلاد لمواجهتها التحديات المنتصبة أمامها، ولنستفيد من إنجازات التقدم والتطور الذي يشهده العالم المتشابك والمتداخل المصالح، -الذي لا يقبل الانعزال والتقوقع- ولنواكب تطوره بشكل سليم، وأن نكون جزءاً منه، منسجماً ومقبولاً مع رتم ووقع تطوره، لا أن نعيش على هامشه.
إن الحالة التي تعيشها البلاد، تتطلب معالجة متكاملة لمجمل القضايا التي تجابهنا في الاقتصاد، والمجتمع، والسياسة.
إذا كنا جادين في الإصلاح الاقتصادي والإداري ومكافحة الفساد، وهذا يعني استحداث خطة شاملة متكاملة للقيام بهذه الإصلاحات بشكل متكامل وليس جزئياً.
إن الأسلوب الحالي الذي يعتمد معالجة المشكلات الملحة وتأجيل غير الملحة لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، ومزيد من الصعوبات، فللاقتصاد قوانينه التي لا تحتمل اللعب، والتاريخ أقوى من أن تجري مغافلته واللعب عليه، ومحاولة نهج أسلوب الحل الوقتي المؤقت لن يضيف سوى مزيداً من التعقيد. إلى لقاء قادم إن كتب الله.