ذات صباح باكر في أواخر ذي الحجة من عام 1402هـ وأثناء الاجتماع الصباحي في القسم الباطني - الذي كنت أتشرف برئاسته بمستشفى الرياض المركزي (مجمع الملك سعود الطبي حالياً أو الشميسي سابقاً) لمداولة الحالات المرضية المستجدة أتتني مكالمة عاجلة من مدير المستشفى آنذاك د. محمد إسحاق الخواشكي -رحمه الله- أن عليّ أن أحضر لمكتبه فوراً حيث إن وزير الصحة الدكتور غازي القصيبي المعيّن ليلة البارحة قد باغته بالحضور للاطلاع على أحوال المرضى والمستشفى.
تشرفنا نحن رؤساء الأقسام بالسلام عليه وسرعان ما ذهبت عنا الدهشة بعد ثوان من لقائه الذي امتزجت فيه البشاشة بالجدية، وكان يستمع أكثر من أن يتكلم، بعد وقت قصير كانت المفاجأة أن طلب زيارة مطبخ المستشفى، وكان حالنا يقول: لماذا طلب زيارة المطبخ بالذات؟! لاشك أنه كان على علم بوضعه السيئ وموقعه اللامقبول في الدور الخامس بين أجنحة المرضى، في طريقه إليه قام بجولة قصيرة على ما في طريقه من الأقسام، وقابل بعض المرضى وتعرف على أحوالهم.
أما في المطبخ فقد رأى ما لا يسره، ومن ضمن ما قال: إن هذا هو المستشفى الوحيد في العالم الذي يقع مطبخه بين أجنحة المرضى.
بعد الانتهاء من هذه الجولة قلت له - وكنا نعلم بمشاغله خاصة أنه يومه الأول في الوزارة التي لم يرها بعد - يا معالي الوزير إن زملائي في القسم الباطني مازالوا في الاجتماع الصباحي وسوف يشرفهم لو قابلوك واطلعت على أحوالهم، فوجئت بترحيبه الفوري بابتسامته المشرقة.. أي والله هذا ما حصل.. وسررت بمرافقته بصحبة مدير المستشفى إلى القسم الباطني الذي كان وقتها في مبان جاهزة منظرها لا يسر الناظرين، في صالة متواضعة أنصت كثيراً لما سمعه من آراء واقتراحات من الزملاء الذين تبوأ الكثير منهم فيما بعد مناصب كبيرة لخدمة وطنهم في كافة المجالات، كان ينصت في يومه الأول أكثر مما يتكلم، ويسأل أكثر مما يجيب في جوٍّ أخوي خلا من الكلفة والرهبة، وكأنه يعرفنا جميعاً منذ سنوات بعد وقت ليس بالقصير، ودعناه شاكرين، ولكنه كان هو الذي يقدم الشكر لنا على المساهمة في الآراء القيمة التي سيستفيد منها، كما قال (رحمه الله).
كانت له مواقف لا تحصى مع المستشفى المركزي تشهد عليها زياراته المفاجئة في غسق الليل وأطراف النهار، وبخاصة قسم الإسعاف الذي كان في غريفات صغيرة من غير اللائق أن تعطى مسمى قسم إسعاف، وقد أمر بهدمها فوراً واستبدالها بمبان جاهزة إلى أن تم الانتهاء من قسم الإسعاف الحالي الذي تمت توسعته لاحقاً، كان يتابع بنفسه تنفيذ تعليماته، فبعد هدم الإسعاف القديم وجه بضرورة إيجاد مواقف مناسبة لمراجعي الإسعاف، وبعد تخطيطه من قبل المهندسين أردت - وكنت وقتها مكلفاً بإدارة المستشفى- الاطلاع عليها على الطبيعة، وكان ذلك بعد ظهر يوم شديد الحرارة، وبينما كنت كذلك إذا بالدكتور غازي يقف إلى جانبي وكأنه الطير الذي وقع على رأسي من هول المفاجأة، وقال لي مبتسماً ماذا تعمل هنا؟ فقلت له بشيء من التلعثم: بل أنت ماذا تعمل هنا في مثل هذا الجو الحار يا معالي الوزير؟!.
وأذكر من مواقفه أنه كان قد عرضت عليه في الوزارة دراسة لتطوير مستشفى الرياض المركزي متضمنة اقتراحاً بتقليص أسرّته (مع مستشفى الولادة والأطفال) من ألفين (2000) إلى خمسمائة سرير (500) وقد أبدينا معارضة شديدة لهذا التحجيم لأسباب فصلناها فما كان منه إلا أن أمر بإعادة الدراسة بمشاركة مدير المستشفى..
وللتاريخ، أذكر أنه عقد عدة اجتماعات في مكتب مدير المستشفى وليس في مكتب معاليه بالوزارة وكان رحمه الله يرأس شخصياً تلك الاجتماعات مصطحباً المسؤولين المعنيين في الوزارة، وكذلك رئيس إحدى الشركات الرائدة في مجال الإنشاءات، وبعد الاستماع لوجهات النظر المختلفة كان قرار التطوير مع عدم الإخلال بقدرة المستشفى الاستيعابية والإحلال التدريجي للمباني القديمة بالأبراج الحديثة التي نشاهدها اليوم في المستشفى، وكان مشروع التطوير لمستشفى الرياض المركزي قد أدرج مراراً وتكراراً في الميزانيات المتتابعة للوزارة، ولم يتم اعتماده من وزارة المالية إلا بعد سنوات طويلة بعد مواقف حازمة وتدخل شخصي من سمو الأمير سلمان الأب الحقيقي لتطوير هذا الصرح الطبي العملاق.
كان المستشفى يعج بالمرضى المنومين بالأسياب، الذين كثيراً ما تزيد أعدادهم عن المائة مريض يومياً وكان قسم الأمراض الصدرية في المستشفى في وضع يندى له الجبين، فما كان منه إلا أن أمر وعلى وجه السرعة بتجهيز مبنى مستأجر للجراحة العامة للحالات الخفيفة بالسليمانية، ومثله للأمراض الصدرية بالعيا، ثم انتقل بجانب دوار المطار القديم قبل أن يستقر بمقره الحالي في شرق الرياض.
هذا غيض من فيض من مواقفه مع مستشفى الرياض المركزي، التي لا تعتبر شيئاً نسبةً لما قدمه لوطنه الكبير من خدمات جليلة في وقت قصير، منفذاً توجيهات مليكه، متخطياً كافة العوائق الروتينية السائدة بكل أمانة وإخلاص..
إنه غازي القصيبي الذي دخل الميدان قبل أن يدخل مكتبه.. إنه الباسم الحازم الحاسم والمتقبل للرأي الآخر إن وجد فيه مصلحة عامة..
أسكنه الله فسيح جناته وأظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولا باقي إلا وجهه.. آمين.
د. محمد عبدالله المفرح
استشاري الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي ومدير مستشفى الرياض المركزي سابقا