يموت الرجال وتبقى مآثرهم وآثارهم حية نابضة، شعلة متقدة لا يهدأ أوارها، يضيء سناها في فضاء سماها، قبساً من علم غزير منه ما هو مدون، ومنه ما يتم تناقله بين الناس ومنه ما ينقله الأثير. وأحسب أن ما هو في حكم المؤكد، أن في مقدمة هؤلاء الرجال
|
المتعلمين النابهين بل المعلمين كان يقف الرجل المتعلم المعلم.. غازي عبدالرحمن القصيبي. رحمه الله.
|
إنه المعلم الذي علمنا أبجديات الشجاعة والصمود والتحدي في طرح الرؤى والأفكار والتصورات بغير مهابة في حوارات مثلى تحرض على إثراء العقل للمرء على ثقافة التعلم في استخلاص فوائد هذه الآراء والأفكار السليمة مجتمعة في تقريب وجهات النظر ليكون المجتمع مجتمعاً حضارياً نابهاً متماهياً مع ثقافة الحوار، بعيداً عن مؤثرات الجمود والانغلاق المكرس للمفاهيم الخاطئة المتوارثة، تشبثاً بالاستفراد بالرأي العقيم الكاره للتطوير والتنوير التي تموج به موارد المعرفة.
|
أبا يارا أيها الراحل.. كيف رحلت وتركتنا، وزمرة من الجهلاء والتجهيل ما زالوا يثبطون من عزائمنا تجاه زادنا الثقافي ليعيقوا نمونا الحضاري، لكي لا نواكب رقي الأوطان الراقية حضارة وثقافة. لقد كنت أيها الراحل العزيز كالطود الشامخ في وجه الإعصار المدمر، فصددت عن وطنك ومجتمعك هذا العبث الجاهلي، وكفيتنا شر غدر هذه الأفكار البالية التليدة الموحشة إن لم تكن المتوحشة التي عريتها وخمدت في كهوفها.. فعزاؤنا فيك أيها الضرغام، أنك أشعلت قناديل متوهجة بددت دياجير الظلام وانكفأت أول مرحلة ضلالية كادت أن تخيم على عقول مسلمة مسالمة، لتجعل منها عقولاً «قاعدية» فكنت المحارب الذي جاهدت بفكرك وقلمك صد شذوذ الأفكار، وأوقفت مزاعم وافتراءات ما تحيكه وتديره تروس ماكينة التفريخ «القاعدية» التي حاولت اختراق نسيج المجتمع المتماسك بعضه البعض.
|
أيها الراحل.. إن التاريخ لن ينسى مواقفك البطولية الشامخة، وأقوالك المستنيرة المرادفة لأفعالك العظيمة وأنت على هرم المسئولية، في الوقت الذي يصعب على المسئولين المتشبثين بكرسي - الوزارة- أن يجرؤ أحدهم على اتخاذ القرار الصعب المفيد للمجتمع، حينما نرى أحدهم وما أكثرهم ترتعد فرائصه بين الإقدام والإحجام ليكون وجوده بوزارته تحصيل حاصل.. ليس إلا.
|
غازي.. يا صاحب القلم الجبار ودرر الأشعار، وحسن الاستنارة في -علم الإدارة- وبداعية الروايات، والوزير ذا الوزارات والسفير ذا السفارات، فقد اجتمعت فيك مكارم الأخلاق نبلاً وشهامة ووطنية، فأضحت سجاياك مثالية حاملة الرمز الفريد المنفرد البعيد كل البعد كمسئول عن الكيل بمكيالين، تصدع بالحق ولا تخشى لومة لائم، هذا وأنت الوزير والسفير، فكنت تطرب للنقد وتعمل على إصلاح ما جاء به النقد، كيف لا وأنت المسئول الإصلاحي الذي أصلح الكثير من الأمور في وزاراته وسفاراته، وتصالحت وأحببت الجميع فيما هو في الصالح العام!!
|
أيها الراحل الكبير، لقد أجهدت قلمك في برائه فكان بدنك مبراته، ولعل المفكر الكبير ميخائيل نعيمة، صادق القول حينما قال (بريت قلمي حتى براني) فما أرى هذا المثل إلا ينطبق عليك، وقد كان قلمك موازياً لألمك، وما بين القلم والألم كانت حياتك حافة بالعطاء كمسئول ومثقف مستنير، فكان القلم رغم ظرفك الصحي لا يفارق أناملك ولم يسقط إلا وقد تمكن منك ألمك، رغم ذلك كتبت قصيدة بمثابة تلويحة وداع.. ويعتصرني الألم حيث أورد شيئاً منها:
|
أغالب الليل الحزين الطويل.. أغالب الداء المقيم الوبيل
|
أغالب الآلام مهما طغت.. |
بحسبي الله ونعم الوكيل |
ويا بلادا نذر العمر زهرته.. |
لعزها! دامت! أني حان إبحاري |
إن سألوك فقولي: لم أبع قلمي.. |
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري |
وإن مضيت فقولي لم يكن بطلاً.. |
وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري!! |
رحمك الله يا نبراس العلم والعمل وجعل الجنة مأواك ومثواك، وعزائي لأبنائك وحرمك، ومحبيك، بل عزائي فيك للوطن.. ممثلاً بحكومتنا الرشيدة التي كرمتك بحياتك وتابعت حالتك لحين مماتك، فنلت الوفاء والثناء فكنت «الاستثناء» كما في كتاب صدر عن صحيفة «الجزيرة» التي كنت موضع اهتمامها منذ الزمن «الصعب» في مسيرة حياتك في نشاطك العملي والثقافي، حتى رحلتك العلاجية، فكان المصاب الجلل يوم غادرت دنيانا الفانية. فلا راد لقضائه.. حقاً إنك «الاستثناء»!!
|
إنا لله وإنا إليه راجعون.
|
|