من أكثر شكاوي الانشغال التي نسمعها في وقتنا الحاضر من الموظفين في القطاعين العام والخاص، هي الشكوى من كثرة الاجتماعات وطولها، ولم تعد هذه الشكوى حكراً على كبار التنفيذيين الذين يمدون اجتماعاتهم لتتجاوز الدوام الرسمي وأحيانا تستهلك ساعات من الليل المتأخر، فقد باتت هذه الشكوى ضمن أعذار موظفي الأعمال المكتبية والخدمات المباشرة. وتأخذ هذه الاجتماعات عدة صيغ ومسميات، فاجتماعات طاقم العمل واجتماعات التنسيق واجتماعات التواصل واجتماعات العصف الذهني واجتماعات فرق العمل واجتماعات لجان التوجيه والاجتماع اليومي والأسبوعي والشهري واجتماع مراجعة الأداء والاجتماعات البينية...إلخ. هذه الاجتماعات باتت تستهلك الكثير من الوقت المتاح للعمل التنفيذي، وقليل من تلك الاجتماعات له صفة تنفيذية فمعظمها يخصص للتخطيط والتنسيق والمراجعة، وهذه النشاطات لاشك لازمة للعمل التنفيذي ولكن هناك ازدياد في الوقت المتاح لهذه النشاطات على حساب العمل التنفيذي، هذا الوضع يمثل خللاً في النشاط الإداري ويؤثر في فعالية الإنجاز ويشكل مصدر إرهاق للموظفين ويحد من المنفعة التي يمثلها الجهاز الإداري. وفيما يلي سأعمد إلى إبراز ما أعتقد أنه سبب في هذا الخلل والتنبيه إلى ضرورة وضع آليات تحفظ التوازن بين عمليات التخطيط والتنفيذ والمراجعة اعتمادا على منهج النظم.
فلسفياً يجوز لنا أن نقول إن كل نشاط هادف لإنجاز عمل ما يجب أن يتبع نظرية النظم (Systems theory) بحيث يكون له مدخلات تمثل نشاطات أو أدوات ومواد ومخرجات تمثل الناتج المراد من هذا النشاط، ثم هناك عملية المراجعة والتقييم لتحقيق تطابق المراد بالمتحقق. هذه النهج في نشاطاتنا نمارسه بصورة تلقائية، ولا نحتاج أن نذهب للمدرسة لنتعلمه، فهو سلوك فطري حيوي تمارسه الحيوانات وحتى النباتات، ومع مرور الزمن ونتيجة للتأثير المستمر لقاعدة الانتقاء الطبيعي يتحسن أداء النشاط ليحقق الوفر الحدي في الجهد والموارد والكفاءة في المنتج. ويحدث هذا بصورة تلقائية ضمن أطر العوامل الثابتة، وحيث إن ثبات العوامل هو أمر افتراضي فإن احتمالات تأثر ذلك النشاط أو تحوره هو حقيقة ماثلة، ومن أهم العوامل المؤثرة في النشاطات الإنسانية على وجه الخصوص، هو شيوع الموارد وتقاطع أو تضاد المصالح، وهو ما يجعل النشاطات الإنسانية معقدة وتستلزم قدراً كبيراً من التنسيق للوصول للمنفعة الشاملة، هذا الكلام الفلسفي نقوله لتبيين أن النشاطات البسيطة والمعقدة تستلزم التخطيط والتنسيق والتدبير والتنفيذ والمراجعة، فالتخطيط يرسم الصورة الذهنية المنشودة لناتج النشاط، والتنسيق يقوم على تزامن وتوليف الأنشطة المساهمة كمدخلات، والتدبير يهتم بتوزيع وتهيئة الموارد بصورة ملائمة ثم التنفيذ الذي ينجز المنتج، أما المراجعة فهي تحقيق التطابق بين المخطط والمنفذ. من هذا الكلام، أين موقع الاجتماعات التي باتت تشغل معظم الوقت المتاح للإنجاز؟. الاجتماعات هي تكريس جهد جماعي لتحقيق أي من مكونات النشاطات الإنتاجية فيمكن أن تكون اجتماعات تخطيطية تهدف لاستثارة الفكر لتصميم المنتج الملائم والذي يمكن أن يكون خدمة أو سلعة، أو يكون اجتماعاً تنسيقياً يضع الجداول الزمنية ويوقت تداخل النشاطات، أو يكون اجتماع توزيع وتخصيص للموارد أو اجتماعاً لتوظيف المهارات والمعرف والجهود لإنجاز منتج، أو هو اجتماع تقييم ومراجعة وتوصية بالتحوير والتعديل.
النشاطات الاقتصادية والاجتماعية في عصرنا الحاضر هي محصلة جهود جماعية لذا فهي تستلزم قدراً من اجتماعات العمل لتحسن فاعلية الأداء، ولكن تلك الاجتماعات تصبح معيقة للعمل عندما توظف بطريقة غير فعالة، فمقولة» إذا أردت أن لا تفعل شيئا فادع لاجتماع» تعبير صادق لما هي عليه كثير من الاجتماعات، ولعله من المفيد التفريق بين الاجتماعات، فمنها المفيد ومنها المعيق وأنا هنا بصدد تبيين تلك الاجتماعات التي تعيق الإنجاز، حيث لها خصائص وبيئة تجعلها غير نافعة ومضرة في معظم الأحيان، فبيئة العمل التي تفتقر للتنظيم الإداري هي بلا شك مؤسسة يكثر فيها النشاطات غير المنتجة وتكثر فيها الاجتماعات العبثية ومن أكثر مظاهر خللها الإداري، هو ضبابية الدور والهدف، وضعف الرؤيا وتشتت مفهوم رسالة المؤسسة، هذا الخلل الإستراتيجي في توجيه كثير من المؤسسات ماثل أمامنا بصورة لا تقبل التغاضي، فكم مؤسسة عامة أو خاصة أو شركة لديها وضوح في الدور، ولديها رؤيا تطمح لتحقيقها، وتعلن لها رسالة يفهمها موظفوها والمنتفعين بها. إن كثيراً من مؤسساتنا أشبه بقافلة تهيم في الصحراء دون وجهة ومهما تجادل وتناقش واجتمع أعضاءها فلن يحققوا أي نتيجة، طالما هم يفتقرون للهدف، كثير من هذه المؤسسات تكثر فيها الاجتماعات وتتشكل اللجان وتتغير أجندتها باستمرار ويكون الهدف من الاجتماعات التهرب من القرارات الحاسمة أو تمييع المهام أو الإيقاع والتآمر والتلويم للخروج من نفق المسؤولية. لذا أجد أنه من الصعوبة عقد اجتماع ناجح ومفيد ضمن بيئة عمل مختلة، أما عندما تكون بيئة العمل في صورة أفضل فإن الخلل الذي يمكن أن يقود لعقد اجتماعات كثيرة وغير نافعة ناتج عن أسباب تتمثل في قصور إداري مثل غموض الصلاحيات التنفيذية وضعف التفويض، وربما يكون لضعف في التأهيل القيادي ففقر القيادي للحكمة والجرأة اللازمة للقرار يجعله يميل لعقد الاجتماعات التي يستمد منها العزم على التقرير، ومن أسباب كثرة الاجتماعات أسباب ضمنية في النظام المؤسسي مثل ضعف التنظيم الإجرائي وقصور المرجعية المعيارية وتداخل الاختصاصات والأدوار في الهيكل التنفيذي، واختلاف معايير التقييم والمراجعة وترهل الجهاز التنفيذي (أي زيادة في عدد الموظفين عن حاجة العمل)، ويبقى الصراع بين التنفيذيين أكثر أسباب عقد الاجتماعات المضرة والقاتلة لفعالية المؤسسة حيث يتم تلفيق أسباب لعقد اجتماعات يكون الهدف الحقيقي منها هو الإيقاع والمكيدة والتلويم.
لذا لابد لقادة مؤسسات النشاط الاقتصادي والاجتماعي والحكومي إدارة أعمالهم ضمن معايير متوازنة لمكونات النشاط، فالتخطيط الزائد عن الحاجة يؤدي لغموض في المراد والتنفيذ الارتجالي يخرج منتجات غير مناسبة وضعف المراجعة والتقييم يشتت الأهداف والاجتماعات الكثيرة وغير المنتجة تقود لقتل الفاعلية وإضعاف الهمم وجلب الامتعاض والنقد والإحباط.
M900m@gmail.com