يسوق الله سبحانه وتعالى الآيات والعبر على عباده ويبتليهم بالخير والشر لعلهم ينتبهون ويراجعون أنفسهم، حتى يشكروا ويعملوا لما يُسْعدهم، لأن بالشكر تدوم النّعم، سواء شكراً لسانياً أو شكراً عملياً، أو شكراً وجدانياً بحمد الله
|
والاعتراف بفضله، وأداء ما لله من حق وما للعباد ويراد به رضا الله، بنية مخلصة صادقة يسارع به إليهم، ليسد عوزهم مما أعطى الله لقوله تعالى ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ? (33) سورة النور. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( مالك مِن مَالِكَ إلا ما أكلْتَ فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت به فينفعك)، ولما كانت الدنيا هي مزرعة الآخرة، فيجب اغتنام الفُرص لزيادة الرصيد فيما ينفع. ورمضان الذي آذنت شمس أيامه بالمغيب هو من أهم الفرص لما فيه من أمور هيأها الله لم تكن في غيره من الشهور.
|
والشاعر العربي يصور الحياة وسرعة تتابع الأيام والشهور، ومن ثم ينبه لحكمة الله في تعاقب الأيام والليالي، بأنها تُعدُّ حياة الإنسان على وجه لا محيد عنه، ليعتبر ويتنبّه لما ينفع نفسه، قبل فوات الأوان، ويغتنم الفرص قبل فواتها ثم يتندّم ولا ينفع الندم، فيقول:
|
دقّات قلب المرء قائلة له |
إن الحياة دقائق وثواني |
وهذا إشارة منه بالتّنبه، ودق جرس الخطر، ليدرك الإنسان ما ينفعه قبل زوال الفانية، حتى يستعد ويتزود للدار الباقية، ولذا فإن العاقل يرى بالبصيرة قبل البصر، أن المناسبات التي تتوالى على المرء، ما هي إلا عظات هيأها الله لتنشط النفوس ولكي تتحرك لزيادة الجد، مع كل موسم بما يتلاءم مع الجسم في العمل، لأن الله سبحانه: لا يكلف نفساً فوق طاقتها، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن العمل بحسب نية القلب، فاعملوا وأحسنوا، لأن الله سبحانه يحب من عباده مواصلة العمل للمهمة التي خُلقوا لها ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين?(56-58) سورة الذاريات. فالله غني عن عباده وهم الفقراء إليه.
|
ولئن كنا بالأمس استقبلنا رمضان، مستبشرين بإدراكه، وما فيه من فضائل، فإنه قد بقي معنا منه سويعات، ننصح كل مسلم بأن يغتنمها ليحظى بفوز من ربّ كريم، فقد كان أول هذا الشهر رحمة، ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار، والسويعات الباقية نترجى فيها من الله بالجزاء مع الفائزين بالعتق من النار، فقد أفلح وكسب من كان من العتقاء في آخر هذا الشهر، ونرجو لأنفسنا ولمن قصّر في الأيام السابقة من الشهر أن يتدارك البقية الباقية، عسى نفحة كريمة من رب جواد كريم: أن تشمل المسلمين المدلجين في أيام رمضان ليكونوا من العتقاء المأجورين، وأن يستيقظ الغافل المقصر للعمل الخالص، والدعاء من قلب متضرع إلى الله، وتوبة نصوحاً تلقى عند الله رحمة وقبولاً، وتوفيقاً للعودة الصادقة، ومع التوبة النصوح، أن يهب المسيئين للمحسنين.
|
والله سبحانه يقول ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? (53) سورة الزمر. ويفرح سبحانه بتوبة عبده المسيء، وينزل في آخر الليل إلى السماء الدنيا، ويقول: هل من مستغفر فاغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من داع فأجيب دعوته.
|
ومع الندم عن التقصير في الماضي فقد جاء الوقت للاستدراك فيما بقي. فقد حدثت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان، شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وفي رواية لمسلم عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيرها، ويخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها إحياء الليل والاعتكاف فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله.
|
وقد روي عن بعض المتقدمين من بني هاشم في هذا -كما جاء في كتاب لطائف المعارف-: أنه كان يريد بإحياء الليل إحياء نصف الليل، وقال من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل، وكان صلى الله عليه وسلم: يعتكف ويحث على الاعتكاف في العشر الأواخر، وليس بلازم كل العشر، بل يكتفي منه بيوم أو بعض يوم، حسب القدرة. وكان عليه الصلاة والسلام يوقظ أهله، حتى يؤدوا ما يقدرون عليه من عبادة في الليل في العشر الأواخر من رمضان.
|
وقد رغّب العلماء في أن يوقظ أحد الزوجين الآخر للصلاة ليلاً، قدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر خاصة لأنها يرتجى فيها ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، فالعبادة فيها خير من العبادة ألف شهر خالية منها.
|
وورد فيها أن من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
|
وفي تحري ليلة القدر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تحروها في العشر الأواخر، ففي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.
|
أما حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم فهو يقول «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، وفي رواية: في العشر الأواخر. في سبعٍ تمضين أو سبع يبقين.
|
أما حديث أبي بكر رضي الله عنه فهو يقول: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله، إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: التمسوها في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة.
|
وهذا من فضل العشر الأواخر من رمضان، وما دمنا في آخر أسبوع من رمضان، فإن كل دقيقة فيه يجب أن تغتنم، وكل فرصة يجب ألا تفوّت، لأن القيام والحرص على الصلاة والدعاء، وقراءة القرآن والتأدب بآداب الإسلام يجب ألا يستهان به، فإن القيام في ليلة القدر التي حريّ مكانها فيما تبقى من رمضان، لأن الأجير إنما يوفى أجره بعد انتهاء عمله، ودعاء بعض السلف في العشر الأواخر «اللهم اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر المبارك».
|
فقد دعا عمر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا أنها في العشر الأواخر، قال ابن عباس رضي الله عنه فقلت لعمر رضي الله عنه: إني لأعلم أو لأظن، أي ليلة هي؟ قال عمر: وأي ليلة هي؟قال: سابعة تمضي أو سابعة تبقى، من العشر الأواخر. قال عمر: ومن أين علمت ذلك؟ قال، فقلت: إن الله خلق سبع سموات وسبع أرضين، وسبعة أيام، وأن الدهر يدور على سبع، وخلق الله الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، والسعي سبع بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار سبع. فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنّا له.
|
وكان قتادة يقول في قوله: يأكل من سَبْع: قوله تعالى ?فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً? (عبس الآيات 27-31).
|
ويلي رمضان من فرص العبادات ما ورد في العيد وليلته من فضائل: كالدعاء والتزاور بين الأقرباء والأرحام وتجديد الصلة والتسامح، ونسيان ما حاول أعداء الله من الإنس والجن إثارته وتكبير القلوب من حزازات وضغائن، وإن من إغاظتهم اعتبار مناسبة العيد موسماً للتصفية والعبادات، ومنها: الابتعاد عن الضغائن، ومن ثم التصافي وخير الطرفين من يبدأ بالسلام، يقول صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان وتصافحا تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر».
|
ويكون العيد مناسبة ليعودوا إخواناً متصافين يعطف كبيرهم على صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، ويحملون عبء ضعيفهم ليواسئوه من مالهم، لأن الصدقة على القريب: صدقة وصلة، ولا يبخلون عنه بجاههم لأن البخيل من بخل بجاهه: مساعدة وإعانة، وتواضعاً وخضوع جانب، وزيارة كبير السن والمريض، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة ومساعدة المحتاج ولو بلطف اللسان والملاقات الحسنة، وحسن الخلق والبشاشة عند اللقاء، وخير الناس البادئ في السّلام والزيارة لأن من آداب المسلم مع أخيه التسابق في الخيرية، فرد السلام، والخيرية في من يبدأ أولاً، حسن الخلق شعبة من شعب الإيمان.
|
وهكذا بالحرص على مفهوم العيد في شريعة الإسلام ترقّ القلوب، وتتصافى النفوس ليكونوا عباد الله إخواناً سواء بالتقارب في النسب أو المجاورة، حينها وصى رسول الله بالجار، حتى ظن الصحابة أنّه سيورثه لما له من حقوق وواجبات، أعمال كثيرة عظيمة الفائدة سهلة على الأداء تتجدد في وقت ليتآلف أبناء الإسلام، ويُتَرْجِمُوهَا عملاً حتى يسعد المجتمع وترفرف المودة في جنباته، بإخلاص وصدق ووفاء، استجابة لما في شرع الله من مصالح وفوائد: عن الله وعن رسوله، يجد الإنسان لذتها في القلب، وحلاوة أثرها في النفس، ويسعد بها المجتمع، بعد أن ألف الله القلوب بعفوه، فكانوا في مجتمعهم إخوانا برحمة ربهم.
|
ثم يلي ذلك فضل صيام ست من شوال، وهذا من مكانة الصيام، الذي جزاؤه من الله، كما في الحديث: «الصوم لي وأنا أجزي به».
|
فقد خرّج مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من صام رمضان وأتبعه ستاً في شوال كان كصيام الدهر».. ولا يشترط في هذه الست التتابع ولا التوالي، بل تصح ولو كانت متقطعة، وفسر ذلك بعضهم بأن الحسنة بعشر أمثالها، كما في الحديث، فرمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بستين يوماً، أي شهرين لتكتمل المدة 12 شهراً، وهو مقدار السنة، على أن يراعي الصائم، عدم الصيام يوم الفطر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يوم أكْل وشرْب، ومنهي عن صيام العيدين.. فالله سبحانه يعطي عباده الخير الجزيل، ويعينهم على الأعمال، ولا يطالبهم في العمل إلا بما يستطيعون رأفة منه ورحمة بعباده.
|
|