أعرف الشيء الكثير عن الدكتور (غازي عبدالرحمن القصيبي) عليه رحمات الله، ويعرف هو شيئا عني.. أعرف الشيء الكثير عنه، ومنذ زمن بعيد من خلال كتبه الكثيرة التي تضمنت أفكاره التقدمية النيرة.
وقصائده وأشعاره التي تسعد كل إنسان فيحفظها جنانه ويرددها لسانه، ومن خلال الأعمال التي أنجزها، والمهام التي قام بها، في المحطات التي مر فيها في جامعة (الملك سعود)، وفي (مؤسسة الخطوط الحديدية)، وفي (وزارة الصناعة والكهرباء)، وفي (وزارة الصحة) ثم في سفارة المملكة في (البحرين) فسفارة المملكة في (بريطانيا) ثم في (وزارة المياه) وأخيراً في (وزارة العمل) ومن خلال الندوات التلفزيونية التي أدارها أو شارك فيها منذ كان في الجامعة مع أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات من القرن الميلادي الماضي.
أعرف الشيء الكثير الكثير عنه لأنه كان (استثناء) في شخصه وأفكاره وأشعاره، و(استثناء) كذلك في حياته الوظيفية والعملية، وقيادته وإدارته للقطاعات التي عمل فيها، وآثاره الإيجابية المختلفة التي تركها وراءه.. أقول ذلك وأنا - مع الأسف - لم أجلس معه، ولم أتحدث مباشرة إليه، ولم تجمعني به محاضرة أو ندوة أو لقاء.
الدكتور (القصيبي) عليه رحمات الله شخصية موسوعية فذة بأفكاره وآثاره، وأسلوبه القيادي وممارساته العملية، ومبادراته في ذلك، ونصائحه التي يعطيها لغيره.. وأمام هذه الشخصية الموسوعية الكبيرة الفذة يستحيل عليك أن تحيط ولو ببعض جوانبها، ولا يسعك في هذه الحالة إلا أن تختار ميادين محددة من الميادين الكثيرة التي خاضها باقتدار وحاز فيها جواده العربي الأصيل قصب السبق والقدح المعلى.
أذكر أن شخصاً أعرفه حق المعرفة، كان يتسنم مركزاً قيادياً مهماً جداً في إحدى الوزارات التي لم تسعد بقيادة (القصيبي) وكان ذلك الشخص على ما أعرف ويعرفه غيري ناجحاً جداً في عمله لكنه في لحظة من اللحظات شعر بالإهانة، عندما سعى وزيره المختص إلى ترقية عدد من زملائه إلى مراتب استثنائية، ونسيه أو تناساه!! فما كان من هذا الرجل الذي شعر بالإهانة إلا أن قدم استقالته من العمل! وقبلها الوزير!!
وعلم (القصيبي) عليه رحمات الله بعد مدة بهذه القصة، فسأل الوزير المسؤول: أصحيح أن فلاناً قد استقال من عمله؟ فأجابه الوزير نعم.
فقال (القصيبي) كيف سمحتم له أن يقدم استقالته؟ بل كيف وافقتم عليها؟ فقال الوزير (متذاكياً): لقد أصر على ذلك!!
فقال (القصيبي) يبدو أنك يا معالي الوزير قد ألجأته إلى هذا التصرف!.. وفي اعتقادي أن قتل هذا الموظف الناجح وبهذه الطريقة كان (خطأ كبيراً)!!
في (وزارة الصحة) وعندما كان مسؤولاً عنها قام (القصيبي) بمبادرات كثيرة وبأعمال كبيرة منها على سبيل المثال التوجيه بشراء فندق (ماريوت خريص) وتحويله إلى مستشفى للنساء والولادة والأطفال ليخدم الأحياء الشرقية المتنامية في مدينة الرياض.. وفي تقديري المستشفى يعتبر الآن أكبر مستشفى يقدم هذه الخدمة الصحية (صحة النساء والولادة والأطفال) على مستوى المملكة..
و(القصيبي) عليه رحمات الله هو الذي وقع عقد إنشاء وإقامة (مدينة الملك فهد الطبية) وهي عبارة عن خمسة مستشفيات في بقعة واحدة، وهي ولله الحمد والمنة تعتبر من المعالم الصحية المهمة ليس في المملكة فقط وإنما في منطقتنا بأسرها.
ومن الأشياء التي تذكر له ويشكر عليها للعمل على تخصيص (مصحف) لكل مريض تستدعي حالته النوم في المستشفى وقد كان ذلك بدعم وتأييد من سماحة الشيخ (عبدالعزيز بن باز) مفتي عام المملكة السابق عليه رحمات الله، وكذلك تزيين جدران غرف المستشفيات بلوحات جميلة تتضمن آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تذكر المريض وزائريه بأن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، وأنه جلّ جلاله هو من نتوجه إليه بالدعاء حينما نشعر بالألم ونفتقر إلى العافية.
ليس غريباً إذن أن نتواجه عياناً مع شخصية الدكتور (غازي القصيبي) عليه رحمة الله في جانبها الإسلامي المتميز، المبني على القناعة المطمئنة، والمؤسس على الدراسة والفهم والوعي والاعتقاد الصحيح.
أذكر أنه في بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، حينما أصدرت (الشركة السعودية للأبحاث والتسويق) من (لندن) المجلة الأسبوعية مجلة (المسلمون) وكلفت برئاسة تحريرها كان من المقترح أن تتضمن تلك المجلة - أعادها الله جديدة قوية بعض الزوايا الثابتة.. ومن هذه الزوايا أن يبدأ كل عدد بمقال يندرج تحت عنوان رئيسي هو (الإسلام.. لماذا؟) يتحدث في كل مرة عن نقطة من النقاط المهمة التي تدل على أهمية الإسلام في حياة الإنسان والبشرية، وتؤكد على صلاحيته لكل زمان ومكان، على أن يتناوب على كتابة هذا المقال شخصيات بارزة وسياسيون في مواقع القيادة، وأقلام إسلامية غير تقليدية.. وقد كان الدكتور (القصيبي) عليه رحمة الله من أوائل الذين استجابوا فكتبوا في هذه الزاوية.. وكان ممن استجاب أيضاً وكتب الملك (الحسن الثاني) عليه رحمة الله والرئيس (جعفر النميري) عليه رحمة الله والسيد (محمد مزالي) رئيس وزراء (تونس) الأسبق والسيد (الصادق المهدي) رئيس وزراء السودان الأسبق ورئيس حزب (الأمة) السوداني والدكتور (شاكر مصطفى) أحد أبرز المفكرين السوريين الداعين للقومية العربية، والسيد (محمد العربي الخطابي) وزير الإعلام المغربي الأسبق، والدكتور (ناصر الدين الأسد) المفكر العربي الأردني المعروف.. وغيرهم.
وليس غريباً أيضاً أن يحدثنا معالي الدكتور (عبدالعزيز الخويطر) وزير الدولة عضو مجلس الوزراء - أمد الله في عمره - بأن الدكتور (القصيبي) عليه رحمات الله قد حدثه بنيته الكتابة في تفسير (القرآن الكريم).. وأنه - عليه رحمة الله - قد درس عديداً من كتب التفسير فوجد أن تفسير الشيخ (عبدالرحمن بن سعدي) عليه رحمة الله هو أقربها إلى قلبه.
سأتحدث أيضاً عن كتابة الدكتور (القصيبي) عليه رحمة الله معلقاً على بعض الأحاديث النبوية الشريفة في كتابه الذي اختار له عنواناً مثيراً ملفتاً للنظر هو (ثورة في السنة النبوية)!!
ولكن دعني الآن قارئي العزيز أتوقف قليلاً عند متابعة شيء من فكر الدكتور (القصيبي) عليه رحمات الله لأدخل في ميدان من ميادين أعماله الجليلة وإنجازاته الكبيرة العظيمة.
إنها (سابك) أو الشركة السعودية للصناعات الأساسية فقد كان مجلس إداراتها برئاسة صاحب السمو الأمير (سعود بن عبدالله بن ثنيان آل سعود) وفياً كل الوفاء مع الدكتور (غازي بن عبدالرحمن القصيبي) عندما قرر إقامة مسجد يحمل اسمه الكريم ليظل راسخاً في صرح هذه الشركة، وفصلاً مضيئاً في قصة نجاحها، ورمزاً جميلاً يطلق إبداعات أجيالها.
وما أحيلى الكلمات التي خطها الدكتور (غازي القصيبي) عليه رحمات الله وهو يخاطب هذه الشركة في بداياتها وقد أصبحت الآن ولله الحمد شجرة طيبة أصيلة كبيرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. ما أحيلى كلماته التي قالها لها في البدايات: (ابنتي المفضلة بعد ابنتي الحقيقية (سابك).. كل الكيانات التي عاصرتها قريبة من قلبي، والكيانات التي نشأت بمبادرة مني قريبة إلى قلبي أكثر، ولكن (سابك) تحتل موقعاً خاصاً لا ينافسها فيه منافس: من ناحية بدأت (سابك) معي ولم تكن هناك قبلي بدايات من أي نوع.
من ناحية ثانية عاصرت ولادة (سابك) ثانية فثانية: كتبت المسودة الأولى لنظامها بخط يدي، وراجعت المسودة النهائية مع الصديق الدكتور مطلب النفيسة - رئيس هيئة الخبراء كلمة كلمة.
من ناحية ثالثة لم تعكس أي مؤسسة فلسفتي في الإدارة مثلما عكستها (سابك).. حتى الاسم كان من اختياري..!!
إن قرار (سابك) هذا المنبثق عن مجلس إداراتها برئاسة سمو الأمير (سعود بن عبدالله بن ثنيان آل سعود) يعتبر قراراً حكيماً عظيماً، ومبادرة حلوة جميلة، وخطوة عملية سريعة في تكريم (غازي القصيبي) بعد انتقاله إلى الملأ الأعلى..
وفي تقديري أن (القصيبي) يستأهل أن تحمل اسمه مؤسسات دينية وثقافية وعلمية واجتماعية في المملكة وفي البحرين، وفي العالم العربي، وفي بقية بلاد الإنسان وجميل جداً بل من حق هذا الراحل الكبير أن تحمل اسمه جامعة من الجامعات أو مكتبة عامة من المكتبات أو مستشفى شامل من المستشفيات أو طريق رئيسي من الطرق أو ميدان من الميادين المهمة، أو غير ذلك مما يذكرنا باسمه على الدوام وبما قام به في حياته خدمة لدينه القويم، وأمته المجاهدة، ووطنه الغالي ومليكه الأب الباني الرحيم.. وما مبادرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض الذي نسأل الله أن نراه دائماً وأبداً وهو بكامل صحته وعافيته، ما مبادرته في التوجيه بتسمية شارع من الشوارع الرئيسية في مدينة الرياض باسم (القصيبي) عليه رحمات الله.. فعل ذلك - حفظه الله - وهو لا يزال في دور النقاهة خارج المملكة، ما مبادرته إلا دليل ساطع من الأدلة الكثيرة على حب ولاة الأمر في هذه البلاد للدكتور (القصيبي) وتقديرهم له، ووفاؤهم معه، وحرصهم على تعريف جيلنا الحاضر والأجيال القادمة من بعده على أهمية الدور المهم الذي قام به هذا الراحل العظيم في خدمة البلاد والعباد.
تلك لمحة من آثار وقفة (القصيبي) عليه رحمة الله في محطة (الصناعة) في بلادنا.. وأما وقفته في محطة (الكهرباء) فيكفي أن نعلم أن المملكة كانت تعاني قبل حوالي ثلاثين سنة، تعاني المدن الرئيسية فيها بما فيها مدينة (الرياض) من انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وخاصة في أوقات الذورة من الحر، وإلى مدد تصل في بعض الأحيان إلى أربع وعشرين ساعة أو أكثر!! وأذكر في ذلك الوقت أنني وأسرتي كنا نهرب من بيتنا الكائن في شارع (الملك فيصل) وكان عبارة عن شقة في عمارة مؤلفة من تسعة أدوار، ونلجأ إلى بيت أخي الذي كان يسكن في دور أرضي في مبنى بحي (البديعة) الذي كان ينعم بتوفر الخدمة الكهربائية.
ولم يمض على تسلم (القصيبي) لوزارة (الصناعة والكهرباء) وكانتا في ذلك الحين وزارة واحدة لم يمض على تسلمه تلك الوزارة إلا فترة زمنية تعتبر قصيرة بالمقاييس حتى اطمأن جميع الناس؛ مواطنين ومقيمين على توافر هذه الخدمة خدمة الكهرباء فلم يعد أحد يخاف من الحر، ولا ربة بيت تخشى على مخزوناتها الغذائية في الثلاجة، ولا طالب يقلق من الدراسة في الظلام ولا مريض يسكن في الدور السابع عاد لتوه من مراجعة الطبيب فوجد مصعد العمارة معطلاً وظل يستغيث بحارس العمارة وجيرانه فيها!.. ولم يتمكن من الوصول إلى بيته بعد عناء طويل إلا بمساعدة الدفاع المدني!!
كتاب الدكتور (غازي القصيبي) عليه رحمات الله (ثورة في السنة النبوية) كتاب نفيس جداً رغم أنه لا يزيد على اثنتين وستين صفحة..
نفيس في عنوانه..
نفيس في الاختيارات التي قام بها المؤلف عليه رحمات الله من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
نفيس في التعليقات التي علق فيها المؤلف على تلك الأحاديث النبوية الشريفة.. ويذكرني اسم هذا الكتاب النفيس (ثورة في السنة النبوية) بوصية الصحابي الجليل (عبدالله بن مسعود) رضي الله عنه (ثوروا القرآن) وفي ظني أنه رضي الله عنه كان يعني بهذه العبارة تثوير معاني القرآن وإحياء مراميه، وتفعيل آثاره ومعانيه في كل شؤون الحياة وأن يشعر الإنسان كل إنسان أن القرآن الكريم ثائر حي فاعل في كل تصرفاته.
وعلى صعيد آخر فإن اختيار الدكتور القصيبي عليه رحمة الله لعنوان كتابه (ثورة في السنة النبوية).. إن هذا الاختيار قائم على أن نهج نبينا عليه الصلاة والسلام المتمثل في سنته الشريفة قائم على (الثورة) على (الثورة التقدمية)!! الثورة على الجاهلية.. (الثورة) على التقاليد البالية.. (الثورة) على العادات السيئة.. (الثورة) على استعباد الإنسان للإنسان.. (الثورة) على ظلم المرأة وهضم حقوقها.. (الثورة) على الفساد وأكل الأموال العامة.. (الثورة) رحمة بكل ضعيف وتكريماً لكل مخلوق ولو كان عصفوراً أو فراشة أو نملة!!
وأما العناوين التي اختارها لتلك الأحاديث النبوية الشريفة فهي:
- نزاهة الحياة السياسية.
- دور المرأة في المجتمع بما في ذلك دورها في الجهاد في سبيل الله.
- قواعد الإثبات ضمانة الحقوق.
- حرمة الحياة الشخصية.
- جمعيات الرفق بالحيوان.
- تنظيم النسل.
- تحريم التعذيب بأشكاله وأنواعه.
ولنتوقف عند عنوان واحد من هذه العناوين التي اختارها الدكتور (القصيبي) عليه رحمة الله موضوعات لكتابه (ثورة في السنة النبوية) هذا العنوان هو (نزاهة الحياة السياسية) يقول القصيبي رحمه الله:
استعمل النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً من (الأزد) على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي! فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذه هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيام! فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر!! ثم رفع يديه حتى رئي بياض أبطيه وهو يقول: اللهم هل بلغت..
يقول الدكتور (القصيبي) عليه رحمة الله معلقاً على هذا الحديث النبوي الجامع المانع، وكل أحاديثه عليه الصلاة والسلام كذلك يقول: (في بلاد المسلمين، معظمها أو كلها تتضافر عوامل عديدة لتجعل الفساد ظاهرة مستشرية تنخر المجتمع من أساسه ومن هذه العوامل: استئثار الأقلية بالموارد على حساب الأغلبية، وانعدام المؤسسات التي تسهر على حماية المال العام، وضعف الوازع الخلقي.. وهذه العوامل وغيرها ترجع في نهاية المطاف إلى سبب واحد جوهري هو غياب الحرية)!..
ويضيف الدكتور القصيي عليه رحمة الله: وانتشار الفساد في بلاد المسلمين أدى إلى ظهور فكرة خبيثة في الغرب تذهب إلى وجود ارتباط من نوع ما بين الإسلام ديناً وشريعة، وبين الفساد ظاهرة مجتمعية.. ويكفي في مجالنا هذا للتدليل على شيوع الفكرة أن كلمة (البخشيش) أصبحت مرادفة في المنظور الغربي للفساد بمختلف أنواعه وأشكاله ولا يجادل أحد في فساد عدد كبير أو صغير من المسلمين. والسؤال هو: هل لهذا الفساد علاقة بالدين الذي ينتمون إليه؟ أم أن هذا الفساد يشكل خروجاً سافراً على هذا الدين؟
الحديث الشريف الذي أوردناه يكفي للقطع بأن الإسلام حارب الفساد والمفسدين وهددهم بعذاب يوم القيامة تنخلع لهوله القلوب!
ومتى تحدث النبي عليه الصلاة والسلام عن مصير الفاسدين المرعب؟ تحدث في عهد كان المسلمون فيه حديثي عهد بجاهلية شعارها (والدنيا لمن غلبا) وتحدث في مجتمع صغير ناشئ لا يعرف شيئاً عن قواعد الخدمة المدنية، وتحدث إلى قوم كان الجوع هو وضعهم المعتاد).
ثم يقول الدكتور القصيبي عليه رحمة الله: (أتمنى لو وضعت كل دولة إسلامية هذا الحديث النبوي الشريف في الصفحة الأولى من نظام الموظفين، ولو درسته في كلية من كليات الإدارة، ولو علق على لوحة في كل مكتب حكومي).
ويختتم الدكتور (القصيبي) عليه رحمة الله تعليقه على هذا الحديث النبوي الشريف بقوله: (لقد صور النبي عليه الصلاة والسلام عذاب من يجيء يوم القيامة يحمل بعيراً تلقاه رشوة، فماذا سوف يكون حالنا نحن موظفي اليوم إذا جاء الواحد منا يوم القيامة يحمل عمارة من عشرين دوراً أو أسطولاً من السيارات الضخمة الفخمة؟! والويل كل الويل لمن جاء يوم القيامة يحمل وطناً كاملاً سرقه، بدبابة، ذات ليلة ليلاء).
حديث نبوي جامع مانع، وتعليق عليه رائع يقطع دابر الفساد المالي والمفسدين ويجفف منابع العدوان على المال العام بكل صوره..
ولعل التجربة الرائعة التي تعيش في ظلالها (تركيا) الحديثة منذ عشر سنوات وإلى الآن.. منذ وصل (حزب العدالة والتنمية) إلى الحكم والأسلوب الديمقراطي القائم على صندوق الانتخابات الذي حدث في أجواء (الحرية) التي نادى بها (القصيبي) عليه رحمات الله.. لعل هذه التجربة الرائدة التي قام بها حزب (العدالة والتنمية) الحاكم ذو التوجه الإسلامي الحي المعتدل، فقطع دابر الفساد المالي والاعتداء على المال العام، فوفر أكثر من ستين مليار دولار في العام وكانت تذهب إلى حسابات الوزراء وأصحاب النفوذ في الدولة، وتهدر على ملاذهم الشخصية ومآربهم الخاصة، وتنفق على أهلهم وذويهم وأصحابهم المقربين!!
ووجه هذه الأموال الطائلة السنوية بعدما وفرها بأمانة وصدق من تعاطى معها وعمل على إنقاذها.. وفرها لتخدم أوساط الشعب التركي بكل أطيافه.. فهيأ فرص العمل للعاطلين عن العمل، وأمن المساكن لمن كانوا ينامون في الخرائب أو تحت ظلال الصفيح! وفتح أبواب المدارس والمعاهد والكليات ومراكز التدريب لأرتال الناس التي تفتقر إلى التعليم والتدريب! وجعل المشافي والمراكز الصحية التي زرعها في كل مكان، تحت أمر المحتاجين إلى خدماتها من جحافل الرجال والنساء والأطفال.
وبذلك حقق المعجزة أو ما يشبهها، وأوصل (تركيا) وخلال عشر سنوات فقط ببرنامجه الإسلامي العظيم، ونزاهة وزرائه، ونظافة أيديهم، وطهارة قلوبهم، وصدق نواياهم.. أوصل (تركيا) خلال هذه المدة الوجيزة إلى أن تصبح قوة اقتصادية كبيرة، ووزناً مالياً مهماً مرموقاً، فصارت واحدة من الدول العشرين في العالم التي امتازت عن غيرها بقوة الاقتصاد وتقدم الصناعة والاستقرار المالي، وفي الأجواء التي تشجع على الاستثمار.
الدكتور القصيبي عليه رحمة الله أعطانا القدوة الحسنة، والمثل المميز خلال اشتغاله في وزارة العمل التي شاء الله سبحانه وتعالى ألا يكتمل مشروعه فيها.
أعطانا القدوة الحسنة في تقديس العمل مهما كان طالما أنه عمل حلال، واحترام العاملين مهما كانت أعمالهم بسيطة، ونشاطاتهم متواضعة، وذلك حينما أمضى مع عمال مطعم من مطاعم جدة ثلاث ساعات اشتغل فيها نادلاً كواحد من العمال الآخرين واعتمر خلال ذلك طاقية العمل وقال قولته التي لا ينساها أحد: إنني شديد الفخر برداء العمل هذا بعد رداء التقوى، وشديد الاعتزاز بطاقية هذه المهنة بعد اعتزازي بالعقال الوطني السعودي!
وفي تقديري أن الدكتور القصيبي عليه رحمة الله إن لم يعمل في وزارة العمل إلا هذا العمل ولم يبتدع إلا هذه القصة وعلى مرأى من الناس، وأمام كاميرات الإعلام.. أقول: إن لم يعمل في وزارة العمل إلا ما قدمناه لكفاه فخرا ًوعزاً، وعملاً خالصاً لوجه الله الكريم، ومبعثاً لتقدير الناس واحترامهم له.. وباعثاً لدى أجيال الشباب من الرجال والنساء على تقديس العمل بكل أصنافه وألوانه.
ولعله بذلك عليه رحمة الله قد سن سنة حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، كما قال عليه الصلاة والسلام.. فقد سعدنا قبل أيام قليلة برؤية صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله وزير التربية والتعليم وفقه الله يكنس، نعم يكنس بعض قاعات مدرسة من مدارس جدة ومعه أساتذة المدرسة وطلابها، ومعهم الأستاذ أحمد الشقيري وفقه الله صاحب برنامج خواطر الناجح المميز.. قد سعدنا برؤيتهم يكنسون تلك المدرسة وفي طليعتهم هذا الوزير الأمير البطل، ليزرعوا بذلك في نفوس الطلاب الغضة نظافة المباني التي يشغلونها، ويؤصلوا هذه العادة الكريمة، ويؤكدوا في النفوس ومنذ الصغر أن النظافة من الإيمان وأن الله جلت قدرته نظيف يحب النظافة.
إن القيادة الحكيمة الواعية المخلصة في هذا البلد العظيم عودتنا على أن تحتفظ بالرجال المخلصين الأوفياء ذوي النزاهة حتى الرمق الأخير من الأعمار، وذلك تقديراً لقيمتهم النفيسة، وحرصاً على أن يبقوا في خدمة الناس حتى يأخذ صاحب الأمانة أمانته.. والقيادة بذلك لا تستطيع أن تتخلى عنهم، وهم أيضاً لا يستطيعون إلا أن يتجاوبوا مع رغبة القيادة في الاستمرار في خدمة الناس.. هكذا فعلت قيادتنا الحكيمة مع الشيخ عبدالعزيز التويجري ومع الشيخ عبدالعزيز بن باز ومع الشيخ إبراهيم العنقري ومع الشيخ محمد النويصر عليهم رحمات الله، وأنا أذكر هذه الأسماء التي لا تنسى لأصحابها الخالدين على سبيل المثال لا الحصر.. أذكر أنني زرت الشيخ عبدالعزيز التويجري عليه رحمة الله قبل سنوات، في مكتبه وقد تجاوز الثمانين من عمره، وكان يرأس اجتماعاً لمديري الإدارات في الحرس الوطني كان عليه رحمة الله بادي النشاط والحيوية، استقبلني واستمع إلى ما عندي وأجرى لازمة في حينه، على الرغم من أنه كان يعاني من آثار التعب ودواعي المرض.
وهكذا تفعل هذه القيادة الحكيمة مع الرجال الآخرين الذين لا يزالون يمارسون أعمالهم بكل جسارة واقتدار.
وهكذا تفعل مع الشيخ ناصر الشثري هكذا تفعل مع الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وهكذا تفعل مع الدكتور أحمد محمد علي، وهكذا تفعل مع الدكتور حسين الجزائري، وهكذا تفعل مع الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وهكذا تفعل مع غيرهم من الرجال المخلصين الأوفياء أطال الله أعمارهم، ووفقهم في خدمة دينهم ووطنهم ومليكهم.
وهكذا رأينا أن الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي عليه رحمات الله كان واحداً من الرجال الأخيار الأفذاذ في هذه البلاد التي هيأتهم العناية الإلهية لأن يكونوا في خدمة الدين ويتشرفوا بخدمة هذا الوطن، ويعتزوا بالمشي وراء الملك المفدى في مسيرته التقدمية الإنسانية الخيرة المباركة.
ولئن قضى الدكتور القصيبي عليه رحمة الله وهو يشد رحاله في هذه المسيرة، معطياً إياها ما عنده من خبرة عالية، وإخلاص فذ، ونزاهة مطلقة، وخلق رفيع، فقد أبى إلا أن ينزل -بإذن الله- منزلة الشهداء الأبرار، والصديقين الخالدين وصدق الله العظيم الذي يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب.
وبعد، أيها الأعزاء الكرام. (سهيل)، (فارس)، و(نجاد) و(يارا), وأمهم الكريمة..
يا أهل القصيبي وأقرباءه وذويه..
يا أحباءه وأصدقاءه ومريديه المعجبين به..
كفكفوا الدموع، وأوقفوا الآهات، وأنهوا مراسم الأحزان، فقد انتقل (القصيبي) إلى رحاب الرحيم الرحمن، الكريم المنان، الذي أعد لعباده العاملين المخلصين المجاهدين الصابرين، الذين يعتزون بخدمة الضعفاء والمساكين المغفرة والأجر العظيم.
واذكروا دائماً وأبداً أن غازي القصيبي عاش حميداً، ومات عزيزاً مجيداً، ويحشر إن شاء الله مع النبيين والصديقين والشهداء.