متى يكتمل القمر ليصبح بدراً، مازلنا في أول الشهر والهلال شوكة رقيقة مغروسة في صدر الظلام.. آه متى موعد الرد.. ؟ متى.. هزّ رأسه وأغمض جفنيه ! فرآها تمشي بين مروج الصحراء وقدماها تغوص في الرمال تارة وتحفها تارة أخرى، وتلك العينين التي تطل من البرقع (ملفع أسود مفتوح بقدر العينين في مقدمته) سوداويين كحيلتين يُرى فيهما سحراً أخاذ برمشين غارقة في السواد مع نظرات غاية في الرونق والجمال تُنبئ عن هدوء وسكينه وطبع يضخ بالرزانة والتعقل. تلبس ثوباً أحمر طُبعت عليه شجيرات صغيرة سوداء ؛ يغطي جسماً فتان ملئ وخصر مستدير وضيق، ينحدر على بقية جسم ذي قوام ممشوق.
يداعب طرف الثوب السفلي الهواء مع خطواتها المتلاحقة حيناً وحيناً تمشي بهدوء. وحينما ترفع يدها وتسند كفها فوق مقدمة رأسها لتحدق بالنظر إلى بعيد !! ترى الكم الطويل الذي ينتهي بحزام يلف معصمها، فيظهر كفها مكتظاً سميناً، يشع بياضاً وحمرةً وباطنه يبرق بالحناء الأحمر.
تأوه مجدداً.. (ما أجمل تلك اليدين !!)
دقت الساعة معلنة الرابعة ليلاً. نهض، خطرت على باله فكرة فأسرع وامتطى سيارته وبعد وقت ليس بالقصير ترجل منها ورآها
ترتع مع غنيماتها، في الخلاء الفسيح !!.
اقترب ووضع على ناظريه منظاراً لمح فيه صورتها وهي ممسكة بعصا تهش بها الغنم، تمشي خلفها، ولم تشعر بمن يلحظ خطواتها ويرقب حركاتها.
رفع رأسه إلى السماء وتمتم يدعو. ثم عاد أدراجه إلى المنزل وقد تجمعت تساؤلات تراكمت على عقله.
بعد ساعتين جلس على مقعده خلف المنضدة الوحيدة التي تسبح في فضاء غرفة دائرة العمل، اقترب منه زميله وحدق به وقال:
- في عينيك كلام لا سبيل لإخفائه..، تأوه ثم اقترب منه وبدأ شعاع ابتسام يكاد يبين، ثم أكمل حديثه:
إن الرجال لا يجيدون إخفاء أسرارهم، لأنهم أقل صبراً من النساء، فهات ما عندك..!
آه يا أحمد.. ترطبت شفتاه بالحروف ونفذت من قبضتهما أخيراً فقال:
ما أطول الوقت حينما تعارك الانتظار.
نظر إليه صاحبه باستغراب..، لكن بعد لحظة عرف ما يدور بخلده وقتما رأى ما رأى وما فاض على وجهه، فتذكر ما دار بينهما من حديث الليلة السابقة فهز رأسه وتفوه:
لله درك، ما أجمل قسمات وجهك والحزن والألم يكتسيه، الله يمن عليك بالصبر والأناة ويحقق مرادك.. آه.. نعم.. نعم عرفت ما بك.
ثم مدّ يده وقبض على كفه وضغط عليها بكل رأفة وحنان، ففتح له سيلاً من الأحاسيس التي أحاطت به وغمرته بعطف ووجل؛ تخبره إنني معك
وتمتم له: - اصبر، لم يبقى غير أيام قلائل وتنزاح عنك الغيوم، وأرجو أن تسمع ما يسرك ؟ دقت الساعة الرابعة مساءً، نهض بعد قيلولة قصيرة ثم أسرع وجمع نفسه وهرول..
وهناك، كادت تطير منه الفرحة التي تمسك بها حين عثر عليها، جوهرة ثمينة.
جاء إلى مسامعه بعد أن حدّق به طويلاً صوت أجش:
- اسمع يا بُني نحن في هذه القرية لنا عاداتنا ولنا أسلوبنا الذي لا نفرط به، بعد أن اقترب منه وحياه..، ثم استطرد:
- ابنتي أمانة عندي، ونحن لا نزوج من جاءنا من الحضر. فكبرت الكلمات وتضخمت وتحشرجت وتكورت حتى غدت قنبلة موقوتة تفجرت في أحشائه عندئذ شعر أن قلبه قد تفتت فاهتز كل كيانه وعل الاحمرار وجهه، وأشعت عيناه غضباً وحنقا، فنزع جسده...، وخرج.