رويدك أيّها الزول.. فما دمت سالماً في بدنك فلتذهب مكتبتك الضائعة في ستين داهية! هكذا همست لنفسي مسترجعاً بحسرة ذكرى مرور عامين على تبخر مكتبتي النفيسة، التي ظللت أجمع كتبها عقدين من الزمان، إبان عملي في المكتب الرئيس لصحيفة (الجزيرة) بالرياض.
تبخرت المكتبة، والسبب يعود إلى إهمال صويحبكم، ثم لرعونة صاحب مكتب الشحن، الذي تجمعني به صلات معرفة؛ حيث حملت كتبي في حقائب الحديد، ونقلتها بأنفاس لاهثة لمكتب الشحن، وطلبت من مدير المكتب نقلها إلى الخرطوم، وأعطيته قيمة الشحن، لكنني طالبته بعدم إكمال العملية إلا بإشارة مني، حيث كنت أنوي إضافة حقائب أخرى للشحنة الثمينة.
الرجل -للإنصاف- نصحني بعدم التأخر عليه؛ فهناك زحام في مستودعات المكتب، وموسم الإجازات على الأبواب، وهو يحتاج إلى الإسراع في إنجاز مهامه؛ ليتفرغ للشاحنين الجدد ومتطلباتهم.
ومع ذلك اتكأت على معرفتي السابقة به، ومارست التريث دلالاً وتلكؤاً، وكنت وقتها قد غيّرت مكان سكني، ورقم هاتفي.
عاودت اتصالي بمكتب الشحن بعد بضعة أشهر فهبّ المدير مزمجراً في وجهي، وقرّعني لتأخري عليه، وقال إنّ الحقائب قد باتت في حكم البضائع المهملة؛ ما يعني أنه تم التخلص منها، أو تم منحها للجمعيات الخيرية! كان الخبر صاعقاً؛ فالرجل عاقبني بالبونية والشلوت، في حين أن الأمر -برأيي طبعاً- لا يستحق سوى قرصة صغيرة في أذني لا أكثر! هكذا تبخرت المكتبة، وضاع جهد السنين في جمعها وترتيبها.
صحيح أن مدير مكتب الشحن أعاد لي دراهمي كاملة، لكن الصدمة ظلت تُفقدني توازني ردحاً طويلاً من الزمان! بصراحة.
أحس ببعض العزاء، وأحمد الله كثيراً حين أذكر ما وقع للجاحظ، صاحب القلم الرشيق والمؤلفات المتألقة؛ حيث قضى عمره يجمع في مكتبته، ويرتبها وينسقها وينفخ غبارها، فلما كبرت أركانها، وتطاول بنيانها، أبت إلا أن تنهار على صاحبها؛ ليموت الجاحظ بشكل دراماتيكي مؤسف.. لافظاً أنفاسه تحت أرتال الكتب الضخمة التي احتفى بها طيلة حياته! لم أمت تحت ركام مكتبتي؛ إذن الحمد لله على السلامة، أما ضياع المكتبة فذاك أمر يمكن تعويضه، أو التخفيف من آثاره؛ فالكتب تملأ أركان الدنيا، والكثير من نفائسها بائرة تشكو الإهمال والهجران من شباب الإنترنت، فما عليّ سوى تحضير بعض الدراهم، وشراء نسخ جديدة، وبمرور الأيام والشهور.. تتكون في منزلي مكتبة حديثة.
وكان الله يحب المحسنين! بتلك القناعة بدأت في استعادة توازني رويداً رويداً، مستأنساً ببيت الشعر القائل: (نفسي التي تملك الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيء إذا ذهب)
وبدأت أتناسى حسرة المكتبة المتبخرة؛ لكن الجروح العميقة.. تبقى قابلة للالتهاب؛ فبالأمس القريب طلب مني زميل صحفي مرافقته لأحد مكاتب الشحن بالخرطوم؛ حيث كان يريد استخلاص بعض البضائع الواردة إليه من خارج السودان، وبعد وصولي معه إلى المكان اكتشفت أن (البضاعة) عبارة عن كتب عديدة، أرسلها إليه أحد أصحابه المقيمين بدولة عربية، وما إنْ رأيتُ منظر الشحنة حتى طارت القشرة السميكة التي كانت تغطي الجرح العميق، ولاحت أمام ناظري الكثير من عناوين مكتبتي المتبخرة؛ ليعود الجرح القديم نازفاً حارقاً، وكأن العامين اللذين مرا على الحدث هما مجرد يوم.. أو بعض يوم!! ما يجعل كبدي ينفطر أن كثيراً من الكتب التي ضاعت كانت تحمل تواقيع إهداء من مؤلفيها، وبعضها نفد من الأسواق منذ مدة طويلة، كما أن الكثير منها كانت في قائمة الانتظار، أقصد انتظار اطلاعي عليها؛ حيث أرجأتُ قراءتها لأوقات أكثر رحابة، رغم أن تصفحها السريع كان يشي بما تحمله من جاذبية وكنوز.
هكذا عدت للمربع الأول.. لينيخ الحزن راحلته على قلبي مرة أخرى، فتالله إني على فراقها لمحزون! لكن (شبح) الجاحظ لاح سريعاً أمام ناظري، وتخيلت منظره مجندلاً تحت ركام كتبه؛ فاقشعر بدني من نهاية مأساوية كان يمكن أن تنتظرني أسفل مكتبتي المتبخرة، فعدت لهمسة البداية، وكررت مطبطباً على قلبي: رويدك أيّها الزول، فما دمت سالماً في بدنك..
فلتذهب مكتبتك وكل كتبها..
في ستين داهية!!
shatarabi@hotmail.com