هيأ الله في كثير من بقاع الأرض ينابيع يسمونها كبريتية، تعوَّد الناس على الاستفادة منها في معالجة بعض الأمراض بحكم التجربة؛ لأن الله (ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء)
كما جاء في الصحيح، (علمه من علمه وجهله من جهله) متفق عليه. وقد أُقيم على كثير منها مصحات، يأتي إليها الناس للاستشفاء، من أنحاء مفرقة، كما في تركيا وبلاد التشيك وألمانيا وغيرها.
وقد وُجِدت نماذج في المملكة كعين (نجم) في الأحساء، التي كسبت شهرة وسمعة ردحاً من الزمن، يقصدها الناس للاستشفاء؛ إذ كانت مهيأة لذلك ببناء ومقاعد على جنبات النبع، وتهوية صحية، من اهتمام الدولة العثمانية، وكان الاستعمالُ لها محدوداً والدعاية لها قاصرة، ومثلها عيون أخرى أُهملت فجفت في: حائل والقصيم والأفلاج، وغيرها من بلادنا كثير، من جهلنا بالاستفادة منها أهملت.
إنَّ بعض الدول التي منحها الله ينابيع ذات مادة كبريتية، وبحرارة تزيد على الحرارة المعتادة في الأنهار والآبار والعيون، قد جاءت ينابيعها من جوف الأرض، المعروفة لدى المختصين بأنها مناطق براكين وحمم تنصهر منها الحجارة، وتنبعث غازات، فتتأثر بها المياه التي ذكرها الله في كتابه الكريم: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ? (21) سورة الزمر.
لذا، وبتقدير العزيز الحكيم، تختلف خصائص الينابيع، كما تختلف منافع ما في الأرض التي خُلق فيها الإنسان، وما تحمل من أشياء نافعة أو ضارة، ولكن الإنسان وبما أعطاه الله من موهبة وتجربة ميّز بينهما؛ فاستعمل النافع، وابتعد عن الضار.
والينابيع في المملكة - قديماً وحديثاً - وما وصل علمنا إليه، وما لم يصل، تُعتبر ثروة، يجب أن تُستغل وتُستثمر، مثلما هيأ لنا سبحانه ينابيع البترول والغاز، وما برز وراءهما من منافع ظاهرة للعيان.
لكن ينابيع المياه لم تحظ حتى الآن بعناية، وإذا كان كثير من أبناء المملكة، على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، يذهبون لتلك الينابيع في الخارج، أو تبعثهم الدولة للاستشفاء، فكم من الجهد والمال يُبذل في هذا السبيل مع أن العلاج في الداخل له تأثير نفسي أكبر.
ألا يجدر بنا أن نستغل ما بين أيدينا وظهراني أبناء جلدتنا، خاصة أن القدرة المالية والمساعدة من الدولة متوافرتان، لنبدأ بتنظيم واستثمار واحدة من تلك الينابيع كتجربة، التي كسبت شهرة عند من عرفها، مع زهادة بعض الناس فيها هنا، وفق المثل (أزهد الناس في عالم قومه).
لقد ذُكر لي ينبوع الليث منذ عشرين عاماً عندما زرت الليث، ويسمى ب(العين الحارة)، ثم زرته في صيف هذا العام، فإذا هو لم يتغير ولم يُستثمر ولم يُبذل فيه أي جهد، ولا يجد راغب الاستفادة منه ما يريحه، وقد يكون عمره قديماً لم يعرف عنه الناس شيئاً.
بل الأمر على النقيض، مع أن الدولة - وفقها الله - قد مدت الطريق المعبد للقرية التي سُميت باسمه (العين الحارة)، ومدت التيار الكهربائي للقرية، وطلاب مدرستها وهيئتها التعليمية إعلاميون محدودون عن فوائد هذه العين، ولسان حالهم يقول: (العين بصيرة واليد قصيرة).. ومن المؤسف أن القادم قاصداً هذه العين ودافعه الفائدة العلاجية، التي أخبره بها من قصدها واستفاد لنفسه أو لبعض من حوله، ليلاً أو نهاراً، لا يستطيع معرفتها، رغم أن مدرسة القرية المبنية على الطراز الحديث مجاورة لها، وعلى بُعد خطوات، لا يعرّفون القادم بهذه العين، ظناً منهم أنها معروفة أو أنهم سئموا فلم يكن لتعريفهم أثر، حتى تُستغل لتصبح قريتهم منتجعاً صحياً بالمفهوم العام.
وعن موقع هذه العين فإن المسافر من مكة المكرمة لمحافظة الليث إذا بدأ من جوار مستشفى النور التخصصي متجهاً جنوباً يقطع 230كم حتى مدينة الليث، والقادم من جدة إلى مدينة الليث، على طريق الساحل السريع، يصل الليث بمسافة أقل.
ومن الليث يجد المسافر طريقاً معبداً يتجه شرقاً إلى بلدة (غميقة) بحدود 25 كم، ومن (غميقة) ينعطف الطريق المعبد يميناً إلى هذه البلدة وعينها النابع فيها ماء حار، بدرجة حرارة تصل إلى 100 درجة، وبحدود 20 كم في (غميقة).
ولا يتفرع من هذا الطريق أي ممر معبد؛ ولذا فلا متاهة فيمن يقصد هذه العين.
إلا أن المؤمِّل في الشفاء يصطدم بالواقع؛ فمجرى هذه العين مع تطاول الزمن أصبح أخدوداً في الأرض، ومع ما فيه من النفايات والطحالب لعدم النظافة والإعانة فإن كبير السن والمريض والعاجز لا يستطيع الاستفادة، بل يُخشى عليه الضرر من السقوط في هذا المجرى، والمرأة المحتشمة المتحجبة ترجع بدون استفادة؛ لعدم وجود ما يتظلل به الأرنب؛ فكيف بمن جاء للاستشفاء بعضو داخلي في جسمه قد يكون في العورة؟!
والماء من داخل العين بدرجة الغليان، ويسبقه بخاره، إلا أنه يبرد تدريجياً ليتجمع في مستنقع راكد قد يُحدث أمراضاً أكثر من الشفاء، وقد لاحظتُ عند المنبع خشبات معروضة، ينام عليها من يريد تسليط البخار على العضو الذي يشكو، وفوقه مظلة بدائية للحماية من الشمس الحارقة، قد يكون تبرع أحد المرضى بها.
ومما يدعو للتنظيم وتحقيق الاستفادة المرتجاة صحياً من العين أرى:
1 - إدخال تحسينات تريح المتوافدين، وقد عرفت من بعضهم ومن أهل القرية أنهم يتكاثرون عاماً بعد عام؛ لإفادة قاصدي العلاج الطبيعي مثلما هو الحال في كثير من الدول التي سخروا ما وهبهم الله من ينابيع؛ فيُسِّرت الخدمات فيها لأصحاب رؤوس الأموال للعمل والاستثمار ومن ثم التجهيز بما يجذب السياح والمستشفين، وذلك بتهيئة ما حول هذه العين بما يجذب الناس ويريحهم وتوفير الأراضي البور الواسعة لتؤجر للمستثمرين ومشاركة أهل الاختصاص في البلاد التي بها مصحات طبيعية في الخارج؛ لجعلها مَعْلما بارزا من معالم بلادنا ومنتجعا صحيا في الداخل تحوّل إليه الجهات المختصة بدلا من الخارج بنفقاته الباهظة.
2 - وهذا يستلزم تهيئة الأمور الضرورية لكل وافد: مساكن وحمامات ساخنة مجذوبة من العين مباشرة، وأيد فنية معينة مع الماء الحار تدليكاً ومساجاً، وتحديد الجلسات.
3 - ولأن مثل هذا العمل جديد في بلادنا، وحتى نعمل مشروعاً ناجحاً ومفيداً، وبمردود للمستثمر والمواطن، فإنه لا بد من أن يكون في جانب الاستثمار شرط بتوفير اليد الفنية العاملة، وتدريب اليد المحلية العاملة رجالاً ونساء؛ حتى يُستفاد من هذا فنيًّا مما لدى الدول التي اشتُهرت بالتطبيب الطبيعي، والبشر يستفيد بعضهم من بعض، وجامعة الملك قد تبنت العلاج الطبيعي بدون عقاقير، فحبذا حماسة مديرها معالي الدكتور عبدالله لتبرز بصماته مثلما تحمس بما تبنته الجامعة للعلاج بدون عقاقير بالفكرة وما يترتب على العمل في بدايته، حتى يقوم كيان مستقل وتتوافر الأيدي العاملة الوطنية مهارة وتدريباً.
4 - وقد يكون من المناسب عدم تملك الأرض المحيطة (بالعين) للمستثمر، وإنما تكون بالإيجار؛ لتصبح باقية للجهة الحكومية ذات العلاقة.
5 - وحبذا لو أن سمو الأمير سلطان بن سلمان لفت نظر الأمانة العامة للسياحة بدراسة الأمر، وفكرة إسناده لجهات سعودية، ومن ثم المشاركة من جهات استثمارية أجنبية متخصصة لكسب الخبرة والإدارة بالمشاركة، حتى يثبت هذا العمل على ركائز فنية؛ لأن القطاع الخاص والشريك الأجنبي المتخصص أقدر وأسرع في التنفيذ.
6 - كما أن الاهتمام بجذب اليد العاملة السعودية أمكن في الدعاية والثبات، وتجديد الخبرات نسائية ورجالية، وإفساح اليد العاملة بالخبرات الثابتة ذات المردود على الوطن، لما وراء تحقيق ذلك من مصالح فردية واجتماعية، منها:
أ- بروز أول مصحة في بلادنا بوصفها مَعْلما سياحيا في منطقة تجذب الأجانب شتاء للدفء والهدوء والشمس ومن ثم العلاج.
ب- سوف يتكون على هذا المشروع قرية سياحية ذات ميزة خاصة صحياً وسياحياً؛ لذا يحسن أن تكون المباني فيها متميزة مستمدة تصميماً ومظهراً خارجياً، وتوزيعاً وألواناً وأجهزة، مما في المصحات الخارجية المشهورة.
ج- مع التنظيم والتهيئة والسمعة التي ينشرها الأوائل في الاستشفاء والزوّار سيكبر العمل بما يحقق جميع الفوائد الاقتصادية والإعلامية..
د- وبتوافر ما يُراد فنياً وعمرانياً لهذا المشروع ستكون هذه القرية، مثل غيرها في دول العالم، ميداناً فسيحاً للعمل الصحي الفني، يجذب اليد العاملة نسائياً في القسم النسائي، ورجالياً في القسم الرجالي، يداً مدربة نافعة بما كسبته من خبرة.
هـ- ولا شك أن في بقاع بلادنا ينابيع مماثلة مهملة سيتحرك من يرفع مكانتها قدوة بما عُمل في هذا المنبع، وللأول السابق فضل العمل، وللاحق فضل التحسين والتنافس. ولما قيل (ليس من رأى كمن سمع) فإنني ألفت نظر أصحاب رؤوس الأموال لاستثارة حماستهم للاستثمار، وهي فكرة أيضاً أضعها بين يدي سمو الأمير سلطان بن سلمان لعلاقة العلاج بالسياحة؛ لعله بثاقب نظره يُخرج الفكرة إلى عمل محسوس وبفوائد يترقبها كثير من الناس.
والله المستعان.