بوادر وإرهاصات التطرف والتشدد، اللذين حاصرا العديد من المجتمعات الإسلامية، لم تتولد فجأة؛ إذ سبقتها العديد من التفاعلات الفكرية التي أحدثت تغيرات في البنيوية الفكرية. وبعيداً عما حصل في مراحل سابقة من التاريخ الإسلامي فإن هجمة التطرف والتشدد الإسلامي في العصر الحديث حصلت من خلال مراحل فكرية وسلوكية، بدأتها حركات ومنظمات حاولت تسييس الدين ثم لبست لبوس الأحزاب، وأخيراً تحوَّل البعض منها - ممعناً في التطرف - إلى حركات قتالية لفرض أفكارهم بقوة الإرهاب.
هذا المسار المتدرج لنمو الفكر المتشدد والغلو في التطرف، الذي يبدأ تنظيماً ليصل إلى فعل إرهابي ومن خلال حركة مسلحة، ليس قصراً على المسلمين؛ بل سبقهم إلى ذلك أقوام وأجناس آخرون. واليوم تتكرر الصورة في الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تشهد ظهور إرهاصات وتنامي فكر يميني ممعن في التشدد. وقد لاحظ الدارسون الأمريكيون للحياة والفكر أن هذه الظواهر بدأت في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الذي كان ليبرالياً ومتسامحاً فواجه الأمريكيين المتشددين الذين دفعوا للمواجهة حاكم كاليفورنيا الممثل السابق والسياسي الذي لم يكن مشهوراً بمستوى شهرته الفنية رونالد ريغن، والذي استطاع وبسهولة إزاحة كارتر والفوز بفترتين رئاسيتين، وقتها ظهر مصطلح (الريغانية) لتوصيف التغير الفكري في أنماط الحياة الأمريكية السياسية والاقتصادية والدينية وحتى السلوكية.
ظل أنصار هذا التيار ينمو ويقوى، وهو يُعدُّ الأساس والرحم الذي ولَّد المحافظين الجدد، الذين قادوا أمريكا في عهد جورج بوش الابن إلى انتهاج سياسة هي الأكثر جنوناً حتى في نظر المفكرين الأمريكيين الذين صنفوا بوش الابن ونائبه تشيني ووزير دفاعهم رامسفيلد ضمن الأكثر راديكالية وحبًّا لإخضاع الآخر باستعمال القوة العسكرية.
هذا التيار الفكري الذي فرض نفسه على العمل السياسي، وأدخل الحزب الجمهوري في بوتقته الفكرية، أخذ في التنامي؛ حيث أفرزت الانتخابات الداخلية التي شهدها الحزب الجمهوري في عدد من الولايات بروز طبقة سياسية جديدة تحتضن أيديولوجية جديدة ممعنة في التشدد والتطرف إلى درجة اعتبار جورج بوش الابن ليبرالياً في أفكاره ومواقفه مقارنة بأفكارهم والمواقف التي أعلنوها في حفلات الشاي التي كرستهم بوصفهم تيارًا أكثر تشددًا من المحافظين الجدد.
***