كتبت في إحدى شذرات شهر رمضان المبارك عن النقاش الذي دار في مجلس الأستاذ عبد الله سالم باحمدان، رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي، بحضور نخبة مختارة من رجال المال والأعمال، ومنهم الزميل الدكتور عمر بامحسون، حول قضية السعودة، وكيف تطرق النقاش إلى مشكلة ازدواجية الشخصية، وعلاقة هذه المشكلة بالشأن الاقتصادي، إذ هي حالة توجد في بعض شرائح المجتمع، خاصة في شرائح النخبة، من مسؤولين أو رجال أعمال، منها المسؤول الذي يتحدث بأريحية عن النزاهة ونظافة اليد وهو غارق في الفساد، ومنها رجل الأعمال الذي يتحدث عن تبعات التستر على الاقتصاد الوطني، والسعودة بشكل خاص، وهو يمارس كل تلك المحظورات في أعماله، وكل تلك النماذج تمثل صورًا من صور ازدواجية الشخصية، وهي في عمومها أن تقول غير الذي تعمل، وأن تعمل غير الذي تقول.
والسلوكيات الخاطئة في المجتمع لها تكلفة اقتصادية، وبشكل خاص التكاليف غير المباشرة، وهي ليست هينة، إذا قيست بأثرها السلبي على أداء الأعمال وكفاءة الإنتاج، لأنها شكل من أشكال التأزم النفسي الذي ينعكس بالضرورة على القدرة على أداء الأعمال والإنتاج بشكل مثالي.
وتحدثت في تلك الأمسية الطيبة التي استضافنا فيها الأستاذ باحمدان بعد صلاة التراويح في منزله العامر بالرياض، عن أنني أضع اللمسات الأخيرة على كتاب جديد يرصد نماذج حقيقية وأخرى تعبيرية عن مشكلة ازدواجية الشخصية في المجتمع السعودي، وعنوان الكتاب «تقطيع التفاح».
وكنت قد هاتفت الزميل الدكتور سعد عطية الغامدي، نائب رئيس مجموعة عبد اللطيف جميل المحدودة، وهو أكاديمي فذ جمع بين علم المحاسبة، كتخصص مهني، وبين موهبة الشعر، وتحدثت معه حول كتابي الجديد، فكتب لي قصيدة بعنوان الكتاب، وجدت أنها مناسبة جدًا لأن تكون بمثابة مقدمة للكتاب، وهو يتساءل لماذا تقطيع التفاح وليس الحبحب مثلاً؟ ولكل منّا وجهة نظر.
وما يرصده الكتاب من قصص تحكي، في الغالب، حياة الطبقة المخملية في المجتمع، وفكرت أكثر من مرة في طرح فكرة إعدادها كمسلسل تلفزيوني، وعرض الفكرة على الزميل المبدع عبد الله بن بخيت، فهي ستكون امتدادًا لمسلسل هوامير الصحراء، إذا توفر لها الطاقم الفني نفسه الذي جذب المشاهدين وقدم صورة لواقع يرفض الكثير منّا الاعتراف به.
وازعم أن تشخيص السلوكيات الخاطئة في المجتمع وتجسيدها، هي الخطوة الأولى على طريق الإصلاح، وهذا ما يهمّنا في المقام الأول، لاعتبارات اجتماعية، ولأجل منفعة الاقتصاد كمحصلة نهائية.
كانت تلك رؤيتي لكتاب تقطيع التفاح، وهي رؤية تعكس طموحًا للإسهام في تحقيق تلك المحصلة النهائية، ولم أكن أدري، أو يدور في خلدي، إطلاقًا، أن يأتي ذلك اليوم، الذي جاء فعلاً، ليثنيني عن إكمال الكتاب، وصرف النظر نهائيًا عنه، لم أكن أدري أن الأيام حبلى بالصدمات، التي تكون قاتلة أحيانًا عندما ترتبط بإنسان تكن له معزّة ومحبة خاصة وخالصة، وكنت ترى فيه أنموذجًا للإنسان الطيب الصادق الذي يحتضن قلبًا نقيًا صافيًا، فوهبته كل حبك وتقديرك، فإذا بك تفاجأ بما يصدمك ويروّعك.
في ذلك اليوم، كنّا ثلاثة نتحدث في أمور الدنيا، فإذا به يتحدث عني ويوجه حديثه لثالثنا، وأنا استمع، ونحن عصبة، ويسترجع قولاً قال: إنني رميته به قبل أكثر من خمس سنوات، ويسرد تفاصيل الحدث بكل دقة ووضوح، يتحدث عنه وكأنه حصل هذا اليوم، ويرويه بما يُشعر به ثالثنا أنه سوء سلوك مني يعكس حقيقة هذا الماثل أمامك الذي يدعي المثالية. كنت أسمع ما يقول، وقد أسقط في يدي، وأنا لا أصدق أذني، تمامًا كما شعر الأمير الشاعر عبد الله الفيصل، يرحمه الله، في قصيدة ثورة الشك، وهو شعور المحب الذي يكابد الواقع، ويحترق ألمًا وفجيعة. ليست مثالية أن تتوقع ممن تحب أن يحفظ سمعتك وكرامتك أمام الآخرين. فالحب ممارسة فيها الكثير من القدرة على التغلب على الجروح. والمحب لا يحمل ضغينة ولا يحقد، وهو، إن قابل ما يكدر عليه من حبيبه، يواجهه فتصفي القلوب بالعتاب، أو يغض عنه الطرف ويصفح ويسامح وينسى وكأن شيئًا لم يكن. مشكلة من يحب هي أنه يعي معنى الحب والتزاماته. ذلك ما كنت أحسبه وأعرفه.
كانت لحظات عصيبة لم أقوى على صدمتها، فآثرت السكوت، وقد تجسّد أمامي أنموذج جديد من ازدواجية الشخصية، فشرعت أكتب قصة ذلك اليوم، لأضيفها إلى كتابي، وأرسم هذا الإنسان الذي يمتلك قدرة فائقة على خلق الكراهية فيمن يكّن له كل الحب والتقدير، حين يتحدث بشكل يتنافى مع ما يتصوره الناس عنه من قلب نقي متسامح، لا تسمع منه ما يكدّر أو يسيء للآخرين.
كان أنموذجًا جديدًا لازدواجية الشخصية التي تكشفت بشكل عفوي فأظهرت جانب الكراهية والحقد والشعور الحقيقي الذي يختلج في صدره في لحظة صدق لم يكد يخفيها. كتبت القصة لأضيفها إلى كتابي. وأخذت أفكر كثيرًا، ما بالك يا رجل تكتب ما لا تحبه فيمن تحبه؟ هل هذا عمل أخلاقي؟ مزقت القصة، وأنهيت بذلك قصة كتاب تقطيع التفاح إلى الأبد، ولتبقى بقية قصصه محفورة في قلب مثقل بتصاريف الحياة وصدماتها. ويقول صديقي، وهو يقرأ مسودة هذه الشذرات، ما بالك أيها الاقتصادي، أين الاقتصاد من هذا الذي تكتبه؟ وأقول له: إن معاناة ومعايشة السلوك الاجتماعي غير السوي تجعلك مشتت الذهن والفكر، وهو ما ينعكس سلبًا بالضرورة على الأداء والإنتاجية. أليس هذا هو الاقتصاد؟
* رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض