تنشط في الأيام المباركة ظاهرة التسوُّل والمتسولين استغلالاً لمحبة الناس للخير والأجر؛ الأمر الذي بدأ يُشكّل خطراً على الأمن في هذه البلاد، وعلى وجه الخصوص عندما بدأنا نرى تنظيمات مشبوهة تقف خلف كثير من هؤلاء المتسولين من الأطفال والنساء الذين يُزجّ بهم إلى الشوارع وعند الإشارات وعلى أبواب المساجد وأمام المراكز التجارية بشكل لافت للنظر بل وللريبة.. والتساؤل: يا ترى من يقف خلفهم؟ ومن يجندهم ليعملوا طوال الليل والنهار دون كلل أو ملل؟ ثم يتقاسموا ما جمعوه بينهم ويبقى النصيب الأكبر من هذه الأموال بأيدي أصحاب العمل الذين قاموا بتوظيفهم ونقلهم إلى هذه الأحياء والمساجد وينتظرون بهم يوماً جديداً ليستأنفوا العمل ويجتهدوا في التحصيل.
إن مما يقشعر له البدن أن هناك منظمات وعصابات مهمتها محاولة استثارة عواطف الناس، وتبتكر لأجل ذلك أفضل وأقوى الأساليب التي يمكن بها استخراج ما عند الناس، ولو استلزم الأمر قطع يد طفل بريء؛ ليخرج أمام الناس بمنظر يثير الشفقة والرحمة، أو استقدام ذوي الاحتياجات الخاصة لاستجداء القلوب واستخراج ما في الجيوب!!
ولعل مثل هذه الظاهرة جعلت عند بعض الناس نوعاً من التردد هل يتصدق أم لا؟ وهل إذا نهرهم ومنعهم يدخل تحت قوله تعالى {وأما السائل فلا تنهر}؟ وقد يكون البعض منهم محتاجاً فعلاً، والبعض الآخر ليس كذلك، ولكن هذا الأمر لا يمكن التثبت منه ومعرفته إلا بصعوبة أو عن طريق الجهات المسؤولة، وما هو دور المسلم تجاهها؟؟
وللجواب عن هذه التساؤلات ينبغي أن يُعلم أن الإسلام الحنيف قد حذّر من سؤال الناس، وحثَّ على التكسّب الحلال والتعفّف عمّا في أيدي الناس؛ فعن الزبير بن العوّام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». رواه البخاري.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب». رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر). رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المسألة كدٌ يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بدّ منه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما برزق عاجل، أو آجل) رواه أبو داود والترمذي وقال:حسن صحيح.
وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث أقسم عليهن..»، وذكر منها «.. ولا فتح عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر». (أحمد والترمذي وصححه الألباني)
قال العلامة العثيمين رحمه الله في اللقاء المفتوح 40-14: أما موضوع التسول فالواقع أن الناس يفسد بعضهم على بعض، فمن المتسولين من يتسول - والعياذ بالله - وهو في غنى، وهذا يصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم) فإذا علمت أنه غني وجب عليك أن تطرده، وأن تبين للناس غناه حتى لا يغتروا به، وإذا غلب على ظنك أنه غني فلا تعطه، وانصحه، وإذا شككت في الأمر فكِلْ أمره إلى الله، ولا يلزمك أن تقابله بشيء. ولكن يبقى النظر أن من المتسولين من يقوم أمام الجماعة، ويتكلم بصوت مرتفع، ويشوش على الناس أذكارهم بعد الصلاة، وقد يستمر في الكلام حتى يشوش بكلامه على من أراد أن يتنفل، فمثل هذا يُمنع ويقال له: اخرج إلى باب المسجد من الخارج.
وقال أيضاً رحمه الله: وكذلك سائلُ المالِ إذا علمت أنّ الذي سألك المال غني فلك الحق أن تنهره، ولك الحق أيضاً أن توبخه على سؤاله وهو غني... وهذا العموم في قوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} مخصوص فيما إذا اقتضت المصلحة أن ينهر فلا بأس (اللقاء 78-11).
وقال أيضا في اللقاء 233-10: حسب علمي أن الدولة مانعة من هذا منعاً باتاً؛ لأن هؤلاء قد يكون بعضهم كاذباً، وإذا لم يكن كاذباً شوَّش على الذين يقضون الصلاة، ثم إن المساجد بُنيت للصلاة والذكر وقراءة القرآن وما بُنيت للسؤال، فيقال لهذا الرجل: اخرج عند الباب واسأل.أ.هـ.
ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية: عن أبي مطيع البلخي الحنفي أنه قال: لا يحل أن يعطى سؤّال المساجد. وقال خلف بن أيوب: لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من تصدق عليه: يعني في المساجد. وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية 22-106رضي الله عنه عن السؤال في الجامع هل هو حلال أو حرام أو مكروه أو أن تركه أحب من فعله؟ أجاب: الحمد لله.
أصل السؤال محرّم في المسجد وخارج المسجد إلاّ لضرورة، فإن كان به ضرورة، وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً كتخطية رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك، جاز والله أعلم.أ.هـ
ولقد أظهرت دراسة علمية سعودية أن غالبية المتسولين قدموا إلى المملكة بحجة أداء فريضة العمرة حيث بلغت نسبتهم 25.89 بالمائة، وقد استقلوا الطائرات في قدومهم (جريدة الجزيرة 16-9-1429هـ)، وهذا بالطبع خلاف الموجود منهم هنا مسبقاً.
وقد أصدرت وزارة الشؤون الإسلامية تعاميم عدة على مدى السنوات الماضية لأئمة المساجد بخصوص منع المتسولين من سؤال الناس، وأن الإمام الذي يتساهل في هذا يعرّض نفسه للمساءلة من قِبل الوزارة.
هذا، وقد حذّر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، من إعطاء الصدقات للمتسولين الذين يصطنعون العاهات أو يستأجرون الأطفال للتسول بهم، وربما أخذوا أطفالاً بغير طريق مشروع فقطّعت أطرافهم لأجل أن يستعطفوا قلوب الناس إليهم. وطالب إدارات مكافحة التسول والجهات الأمنية بمكافحة هذه الظاهرة وعدم التساهل في الأخذ على أيدي المتسولين.أ.هـ (جريدة المدينة عدد 17293).
فالواجب على الأئمة - وفقهم الله - العمل على تنفيذ تعليمات الوزارة وتوجيه المحتاجين إلى الجمعيات الخيرية والمؤسسات الرسمية المعنيّة بذلك، وحثّهم على العمل والتكسّب والاستغناء عما في أيدي الناس، والواجب أيضاً على المواطنين والمقيمين التجاوب مع ما يراه ولي الأمر ويأمر به بما يحقق مصالح البلاد والعباد، وألاّ يكونوا سبباً في انتشار هذه الظاهرة فضلاً عما يترتب عليها من المحاذير التي قد تخفى على كثير من الناس، فإن إدارة مكافحة التسوُّل لا يمكن أن تقوم بدورها المطلوب إذا لم يكن هناك تعاون من الجميع للقضاء على هذه الظاهرة. نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء.
* جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - كلية الدعوة والإعلام