التقاعد تلك المرحلة التي ما أن يصل إليها أحدنا حتى يتسلل إليه الفراغ وقد يصاحبه الملل، لذا لابد من ملئه، وأفضل ما يكون لذلك هو ممارسة الهوايات التي قد حال العمل دونها، كالقراءة والسفر لأماكن لم يتمكن من السفر إليها أثناء العمل.
دلفت لمكتبتي الخاصة في هذا اليوم أجيل النظر بين الكتب والملفات ومعه كانت تجول رحى الذاكرة!
توقفت عند أحد الملفات الخاصة والأثيرة لدي، ملف احتفظت فيه بأسماء تركت انطباعاً خاصاً في نفسي وفي مسيرة حياتي مبكراً.
قرأت بعض تلك الأسماء ومعها كانت الأحداث والمواقف ترتسم أمامي، ومنها أحداث معركة منتصف شهر رمضان المبارك لعام 1389هـ (حرب الوديعة) جنوب شرورة وهي إحدى محافظات منطقة نجران جنوب وطننا الحبيب، تلك المعركة التي قادها معالي الأمير خالد بن أحمد السديري - رحمه الله - ذلك الأمير القائد الذي حظي ومنذ شبابه بإعجاب وثقة ولاة الأمر: الملك عبد العزيز وأبنائه، سعود، فيصل، خالد، فهد رحمهم الله جميعاً. فما أن تحدث مشكلة تحتاج إلى رجل حكمة وشجاعة وبعد نظر حتى يكون هو لها، ولو أردت أن أدون كل ما عرفته وقرأته وسمعته عنه لتعبت يدي وكلت ذاكرتي.
ومن تلك الأسماء التي سجلتها في ذلك الملف اسم اللواء إبراهيم الرشيد - رحمه الله - رئيس الجهاز العسكري بالحرس الوطني سابقاً الذي كان يشرف على وحدات الحرس الوطني التي شاركت في طرد المعتدين من الوديعة والمواقع المحتلة، (كان العميد منسي بن زيد البقمي - رحمه الله - آنذاك يقود بعض تلك الوحدات).
وبعد عصر اليوم الذي كانت فيه المعركة الحاسمة التي قتل فيها قائد المعتدين عبد الله بن شلال وانسحب المعتدون، كنت أنا واللواء إبراهيم والأخ حسين بن عجيم اليامي الذي كان وقتها برتبة نقيب (تقاعد برتبة لواء مديراً لشرطة منطقة تبوك) في سيارة واحدة نسير خلف الأمير خالد - رحمه الله - باتجاه المواقع الأمامية، حيث قام بتفقد بعض الوحدات وإعطائها بعض التوجيهات وإرسال دوريات خلف مواقع العدو لإرباكهم وقطع إمدادات تمويلهم، وقد كانت تفصل بيننا وبين سيارة الأمير خالد مسافة، فعندما مررنا بالقرب من بعض المرتفعات الجبلية التي كان يوجد على قممها بعض المعتدين أطلقوا علينا عدة قذائف من مدفع ميدان، ورشاشات (عيار 55) كانت تقع بالقرب منا وكان اللواء الرشيد - رحمه الله - يقلل من خطورتها ويؤكد انه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فتجلت شجاعته ورباطة جأشه إذ لم تفارق ابتسامته محياه وقد كان - يرحمه الله - يحظى باحترام وتقدير معالي الأمير خالد والقادة الذين كانوا معه ويحظى بحب واحترام الأفراد.
وفي ذلك الملف أسماء لأبطال من القادة والأفراد أعجز عن وصف شجاعتهم ورجولتهم ووطنيتهم ومقدرتهم القيادية والقتالية، أرجو أن أتمكن من الكتابة عنهم والتذكير بهم.
فتحيةً واحتراماً وتقديراً ودعاءً صادقاً لأولئك الأبطال الذين شاركوا في تلك الأحداث وأحداث أخرى من أفراد الجيش السعودي والحرس الوطني وإمارة منطقة نجران وحرس الحدود والمواطنين الذين جاءوا على سياراتهم وبأسلحتهم الخاصة دافعهم الغيرة على الوطن وحمايته، يتجلى في مواقفهم الإخلاص وحمل الأمانة، كيف لا؟ وهم أبناء الوطن الذي وحّده الملك عبد العزيز صانع معجزة توحيد الجزيرة بعد أن كانت قبائل متناحرة وقرى ومدن متناثرة يسودها الفقر والجهل والسلب والنهب، وأصبحت بفضل الله مضرب المثل في التلاحم والتراحم والتآخي والأمن والاستقرار والرخاء تجاوزت بذلك كثيراً من بلدان العالم المتحضرة.
كتبت هذه الأسطر في هذا الشهر الكريم لأذكّر بهم لعل من يقرأ هذه الأسطر يدعو لهم بهذه الليالي المباركة خاصة من سبقنا منهم إلى جوار ربه الغفور الرحيم.