صالح أحد القراء الذين خصّوني بهمومهم؛ إذ بعث لي برسالة ورقية طويلة تحمل شجونه، وآلامه، والكثير من طيوف أحلامه، لأنه كما يقول: (لا أكتبها من فراغ، كما لا أريد منها إضاعة وقتك، ولا أرتجي من الكتابة عنها بقلمك الذي أعتز به أن تأخذ طريقها لغير مساحة زاويتك، فهي من هناك تمتزج بفكر من أتوقع أن يشاركني هز رأسه يمينا ويسارا، وإطلاق تنهيدة طويلة، بها أنفِّس عن كربتي وهذا يكفيني..).. صالح شاب حصل على أعلى الدرجات في سنوات حصاده ليس لأن الدرجات العالية كانت غايته بل لأنها جاءت جزاء معادلا لنباهته وجده وتحصيله، إذ هو يؤمن بأن ما يتعلمه ليس لتذروه ريح النسيان بعد الوثيقة الورقية بل لتكون الوثيقة شاهداً على ما يختزنه وما يتفاعل داخله فينبت فسائل شجرات في مسار حياته، ومضامير عمله وإنتاجه, وحصد فحصد، فزاد واستكثر، ثم درج نحو العمل، تخيل أن بيئة العمل ستكون المعمل الذي يصنِّع فيه وينتج، ويصدِّر عنه، ويزرع، وينمِّي فيه، ويُثمر، ويمدُ عنه العرائش للآخرين، وفيه سيجد الأيدي المعينة، والنفوس المعطاءة، والعضد المتفاعل، والموآزِر المُنتج.., لكنه وجد أيد تجز بفؤوسها طلع العطاء، و وجوها تضحك في الوجه، وتكشر عن أنيابها في الخلف، تدك بمعاولها ما يبني، وتنقض بمواقفها ما يُقيم.., ونفوسا في صدور انطوت على الغيرة، وبيتت ما لم تكن تبديه في النهار.. تعب صالح، وجد نفسه يضاعف الجهد في مكافحتها وفي عطائه، في بذله وفي درء سمومها عنه، حتى أدرك أن العلب الفارغة وحدها ما يُحدث ضجيجا، أما المليئة فوحدها التي تستقر صامتة، لكنها لا تقواها الريح.., فالضجيج وحده المسموع، والفراغ وحده الذي يأخذ بتلك العلب نحو الأعلى في النور, والفضاء المرئي، وأمام الأنظار, والأسماع، وعند محيط الاهتمام.., والتصفيق.
صالح يقول: (تمعنت في اللوحة التي أمامي يا كاتبتي، فوجدتها في كل مكان وقد أخذت بالعلب الفارغة نحو الظهور واحتلال الواجهة، وامتلاك نواصي المرئي والمسموع، وأبقت المليئة بأوزانها عند مواطئ الأقدام.. قررت أن أتوقف عن الضخ، وأبقي ما في جعبتي من كل الحصاد والثمر لتربة داخلي وأن أعمل على إثرائها، وحدي في صمت لأتقي ركلات وصفعات العلب الفارغة وهي مع الريح تتخبط في هوجاء..).
صالح أحد النماذج المتكاثرة التي تواجه معمعة الصراع الراهن بين ظواهر الحياة المستجدة، وقيم الأمثل التي توارت، بعد أن عمَّ التسطح، ولحق الهزال، وتفشت مبادئ الاستهلاك حتى في الأفكار والتقييم والتعامل بل المبادئ، فكبر الصغير، وعلا الوضيع، وتضخم الهزيل، ووصل اللاهث، وطار مكسور الجناح..
شكراً صالح، حروفك من نور، وكفة الميزان ترجح بعلبتك، فلا تخذلك الريح.. واصل مع عملك درسَك وضخَّك.., أنت تصنع ذاتك فلا يهزمك الآخرون, وتشكل نفسك فلن يحبطك ميزانهم..
زنْ نفسك، ذلك جزاؤها العدل.. والحصاد لك.
شكراً صالح أنك أتحت لي اطمئنانا واسعا، وهيئتني له.
وشكراً في الأخير أن تتقبل بعض الإجراء اللغوي وقد كان طفيفاً جداً.