ما من كاتب صحفي يكتب عن الخدمات إلا وسيمتلئ صندوق بريده برسائل القراء التي تشكو وبحرقة من تردي الخدمات الصحية في المملكة وتباين توزيعها بين المواطنين، وكذلك الوافدين. أعرف أن قضية توفير الخدمات الصحية هي من القضايا المعقدة والشائكة والتي تئن منها أكثر شعوب العالم، وبالذات شعوب دول العالم الثالث، وخصوصاً الفقيرة منها. غير أن مشكلة هذه الدول الفقيرة تكمن في صعوبة (تمويل) هذه الخدمة، ليكون هذا القصور مبرراً. أما في المملكة وكذلك دول الخليج الغنية، فلا يمكن أن يكون التمويل عائقاً، على الأقل نظرياً، لتنتقل المشكلة منطقياً إلى كاهل الحكومة، كمشكلة محض (إدارية)؛ وأنا هنا لا أحمِّل وزارة الصحة فقط المسؤولية، وإنما تشترك معها، وبنفس القدر من المسؤولية، وزارة المالية، وكذلك وزارة الاقتصاد والتخطيط؛ هذه الوزارات الثلاث مجتمعة هن المسؤولات بصورة مباشرة عن قصور (النظام الصحي) المعمول به في المملكة، وعدم توزيع (الخدمات الطبية) بشكل عادل على جميع المناطق، ولكافة المواطنين فيها؛ وهذا مكمن الداء.
يقول التاريخ إن أول مؤسسة حكومية أنشئت في المملكة لتعنى بالصحة كانت عام 1344 هـ، تحت مسمى (مصلحة الصحة العامة والإسعاف)؛ أي أن عمر التجربة الصحية، كمؤسسة رسمية، في المملكة يقرب الآن من 90 عاماً، هذه التجربة الطويلة كان من المفروض أن تُثري تجربة النظام الصحي من واقع التطبيق العملي الطويل، وأن يكون هذا النظام بصفة دائمة تحت طائلة التقويم والتطوير والتحسين ومواكبة المُستجدَات؛ غير أن ما نراه على الأرض - للأسف - خلاف ذلك؛ وليس أدل على ما أقول من رداءة الخدمة في بعض المستشفيات الحكومية من جهة، وكذلك في المستشفيات الخاصة من جهة أخرى؛ إلى درجة أصبح فيها طبيب المستشفيات الخاصة في منتهى السوء؛ فهو يحاول بأية طريقة أن يجعل من مهنته، وحاجة الناس إليه، وسيلة لمص الجيوب؛ وقصص هذه (المؤسسات) الخاصة، وإخفاقاتهم الطبية، ونصب أصحابها، وجشعهم، على كل لسان؛ أما الجهات الرقابية (فلا من شاف ولا من دري) كما يقولون!
طيب.. وش الحل ؟
يقول مؤلفا كتاب (النظام الصحي السعودي - نشأته - تطوره - التحديات التي تواجهه) الدكتوران عثمان الربيعة وفالح الفالح: ( يوجد في العالم بشكل عام خمسة أنظمة لتمويل الأنظمة الصحية: الأول: ضرائب تؤخذ من المواطنين. الثاني: التأمين الاجتماعي الإلزامي. الثالث: التأمين الصحي الخاص. الرابع: ميزانية مركزية من الدولة. الخامس: الدفع المباشر مقابل الحصول على الخدمة). انتهى.
من الواضح أن النظام الصحي المتبع في المملكة، حسب الوضع الراهن، هو مزيج من (التأمين الصحي الخاص) إضافة إلى (ميزانية مركزية من الدولة) وكذلك (الدفع المباشر مقابل الحصول على الخدمة)؛ غير أن هذا المزيج ثبت فشله، والدليل تردي الخدمات الصحية في المملكة.
حكومة المملكة تصرف على الخدمات الصحية من ميزانيتها ما يقرب من 39,6 مليار ريال؛ وهذه الأرقام تشمل ميزانية وزارة الصحة، إضافة إلى ميزانيات الخدمات الصحية في جهات حكومية أخرى. وحسب تجارب الدول المتقدمة، فقد ثبت أن التأمين الصحي الإلزامي على الأفراد هو الطريق الأمثل لتقديم الخدمات. ففي اليابان مثلاً يتم الإنفاق على الخدمات الصحية على النحو التالي: 56% عن طريق التأمين الاجتماعي. 31% مباشرة من ميزانية الدولة لتغطية (تأمين) الشرائح غير القادرة على الاشتراك في التأمين نظراً لانخفاض مداخيلها. 11% عن طريق الدفع المباشر للشرائح القادرة على الدفع. وكما تقول النتائج فإن نظام اليابان الصحي المعمول به حالياً هو من أفضل النظم الصحية في العالم إذا لم يكن أفضلها على الإطلاق. والسؤال: لماذا لا نقتفي أثر اليابانيين، ونجعل من (التأمين) وسيلة لتقديم الخدمات، بدلاً من هذه الفوضى والمعاناة التي تعاني منها شرائح واسعة من المواطنين؛ خصوصاً وأن الدولة قادرة من خلال اقتطاع جزء من ميزانية الخدمات الصحية لتفعيل وتمويل (التأمين الصحي)، الذي سيحل كثيراً من معاناة فئات كثيرة من المواطنين فيما لو طبق.
إلى اللقاء..