Al Jazirah NewsPaper Monday  20/09/2010 G Issue 13871
الأثنين 11 شوال 1431   العدد  13871
 

العيد في المدن الطارئة!
عبد الرحمن الحبيب

 

قامت أمانة مدينة الرياض باستطلاعات شملت نحو 200 ألف استبيان لتقدير درجة رضا الجمهور على الفعاليات التي تقيمها الأمانة وتحديد النشاطات التي تحظى بالإقبال وأفضل الأساليب..

وتشير البوادر الأولى للاستطلاعات والملاحظات العامة إلى إقبال جماهيري كبير لتلك الفعاليات.

من المبهج أننا بدأنا نستمتع في السنوات الأخيرة ببعض مظاهر العيد كما يليق به كعيد، من مهرجانات وبرامج شعبية، وملاهي ومسارح..الخ. المشاعر مبتهجة رغم أن التفرقة بين أفراد العائلة الواحدة لا تزال حاصلة في بعض تلك النشاطات أو في أغلبها (حسب المدينة وحسب الموقع في المدينة!!)، بدعوى منع الاختلاط، مع أنه مثل أي اختلاط يحدث في الأسواق والسوبر ماركات. وتلك التفرقة تحرم العائلة من التمتع بالأنشطة سوياً ويفرق بين أعضائها، بل ويجعل البعض يمتنع عن الحضور ويحرمهم حقهم بالفرحة بالعيد مع الآخرين.. ولطالما سأل كثيرون: لماذا يفرقون بيننا!؟

فيما مضى في القرى والأحياء في البلدات كانت مظاهر العيد بسيطة وعفوية غالباً ما تنحصر في ولائم (حسب المتيسر) وأهازيج ورقصات مفتوح مشاركتها للجميع.. ولم يكن ثمة خوف من «اختلاط» فلا أغراب ولا أجانب، والجميع متعارفون متآلفون: «كلنا عيال قريِّة كل يعرف أخيه».. لكن مع الطفرة منتصف السبعينات، وما تخللها من الهجرة من الريف إلى المدن، وتفكك الأحياء القديمة في البلدات التي تضخمت وأصبحت مدناً تعاني من اغترابها الداخلي، واجه السكان حالة غريبة من ندرة مظاهر الفرح بالعيد.

غربة السكان الجدد وتفرق أبناء البلدة أو الحي الواحد جعل من الصعب الاحتفال بالعيد على الطريقة العفوية المتعارف عليها، ومع عدم وجود بدائل أو ابتداع طرق منظمة حديثة تناسب الاحتفاء بالعيد في المدن، صارت أيام العيد فيها صامتة كئيبة.. حتى الولائم فقدت بريقها لمجتمعات لم تعد فقيرة تتلهف على الأطعمة الدسمة.. بل حتى تجمعات العوائل من فئة قرابية واحدة أو قرية واحدة فقدت لذتها وأُلفتها حيث تفاوت أفراد كل فئة في الاهتمامات نتيجة اختلافهم في المستوى الوظيفي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، بينما فيما مضى كانت مستويات الجميع متقاربة..

في أيام العيد تلك، كان عدد السكان ينخفض لدرجة هائلة في المدن الطارئة، حيث يهرب السكان إلى قراهم وبلداتهم الأصلية تاركين المدينة تغرق في فراغ موحش عانيناه في تلك الأعياد.. كان بعض الشوارع يوحي بأن المدينة مهجورة.. وكانا نبحث عن العيد فلا نجده إلا في الذاكرة.. كان العيد في مدن الملح يشكو من فراغ سكاني.. فراغ ثقافي.. فراغ حضاري!

ولأن الطبيعة تكره الفراغ، فقد انتعش التشدد الديني الذي حول تلك المناسبات إلى فرصة للتبشير بأفكار «الصحوة»، ومعترضاً على ما تبقى من مظاهر الفرح الشعبية التقليدية وعلى مقدمات المظاهر الحديثة، ويرى فيها خروجاً على تعاليم الدين حسب تفسيراته، على رغم ما يوفره المشايخ التقليديون من الأدلة الشرعية المتسامحة أو المؤيدة لمظاهر الفرح. بل امتد التشدد الديني إلى حفلات الأعراس حين انتشر بها دعاة التشدد ملقين المحاضرات والمواعظ، بادئين بالإسبال وحلق اللحى ومنتهين بالموت وعذاب القبر، حتى وصل الأمر إلى تندر البعض بأن الأعراس أصبحت مناسبة للعزاء أكثر مما في المآتم!

ويمكن النظر للتشدد الديني من زاوية اغتراب القروي أو التقليدي الذي يبحث عن هويته المفقودة في زحام المدينة الجديدة.. عن هوية واحدة بسيطة في ظل تعقد الأنماط الاجتماعية للمدينة وتعدد هوياتها.. ليغدو كل جديد محرم سلفاً لأنه تشويه لأصالة القرية، وكل تنوع مرفوض لأنه تشتيت لوحدة الجماعة.. والمغترب المفرط في حنينه يتطلع بشوق حاد للماضي، منكر لحاضره ومقاوم للتجديد..

مرحلة الفراغ المدني والتشدد الديني، ترافق معها مزاج انكسار قومي (عروبي أو إسلاموي) عام يشعر بتخلفه تجاه العالم خاصة الغربي، ويستنكف الاحتفال ويطلب التركيز على شحذ الهمم، بزعم ما تمر به الأمة من نكبات ومصاعب جمة، فيجعل من العيد مناسبة عزائية، مثل أن يقال لك: فلسطين محتلة.. العراق ممزق.. اليمن كذا والصومال كذا.. والعرب أو المسلمون في تشتت وهزائم، وحقوق الإنسان مهدرة، فكيف نحتفل بالعيد؟ مرددين ومكررين على مسامعنا بيت المتنبي:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد

متناسين أن حزن المتنبي كان ذاتياً وليس استرجاعاً لهمٍّ عام معروف لا جديد فيه، فهو يتحدث عن حالة المفارقة بين وضعه الخاص البائس أثناء هربه من كافور الأخشيدي وبين فرحة الناس في العيد.

الاحتفالات البهيجة لها معان إنسانية تنطلق من مناسبة حيوية تشعر الجماعة أو الأمة بوحدتها وقوتها المادية والروحية. فقد ظهرت الأعياد منذ آلاف السنين مع استقرار المجتمعات البشرية التي احترفت الزراعة وارتباطها بالتقويم الفلكي ومواقيت المواسم الزراعية، وامتزاجها ببعض الأساطير لجلب الخصب ودفع الشرور. وتطورت الأعياد مع ظهور الأديان السماوية وارتقت بها إلى معاني أكثر روحانية مع احتفاظها على مظاهر الفرح. ثم تطورت أيضاً في الزمن الحديث لتعطي تنوعا مدنياً أكثر واستثماراً اقتصاديا أكبر..

ليس في وارد مقاصد العيد أن ننحصر في الهموم والنحيب على قضايانا العامة، بل أن نخرج منها لدعم روحنا المعنوية.. فأعمال الترفيه هي في ذات الوقت دعم نفسي لنا لمواجهة الأزمات والتعالي عليها، ودعم معنوي لمجابهة مكابد الحياة الداخلية والخارجية.. فإذا تمكنت الكآبة من القضاء على الفرح في داخلك تكون قد استحكمت حالة الصراع معك، وأصبحتَ رهينة لها.. فكما وضح لنا مختصو أمراض القلب والعلل النفسية بأن الراحة النفسية والبهجة والضحك والحبور هي مفاتيح لصحة الجسد والنفس، كذلك فإن مباهج العيد والتمتع بها هي من مفاتيح صحة المجتمع ونجاح دوره حضاريا..

عيد المدينة فسيح متنوع متعدد الفئات والأنماط وليست عيد قرية ولا جماعة تكتفي بوليمة وتجمُّع وأهازيج من نوع واحد.. عيد المدينة حالة دنيوية ودينية وليست حالة كهنوتية تحتفل بالعيد عبر مواعظ وصلوات فقط.. ومن هنا قامت أمانة منطقة الرياض بعمل الاستبيان الضخم لتتعرف على هذا التنوع والتعدد.. وربما ليس من الصدفة أن يطلق على برنامج احتفال الرياض «عيد الرياض عيدين»، فالعيد لم يعد واحداً!!

alhebib@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد