رحل رمز من رموز الثقافة والفكر والأدب في هذه البلاد، وهامة وطنية تستحق التحية والاحترام، وتستوجب إعطاءها حقها بذكر مآثرها ومحاسنها، فقد عاش رجلاً ذا سمعة طيبة، وإنسانية، وتواضع، ودخل في سجل هاماتنا الوطنية التي نعتز بها، فوجب علينا أن نقف لنعطيه حقه كما أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عندما أمرنا بذكر محاسن أمثال هؤلاء الرجال: «اذكروا محاسن موتاكم». «رواه أبو داود، والبيهقي، والطبراني».
وهذا رجل كل ما عرفته عنه طيب، وكل ما فيه أديب، وكل حياتنا معه كانت جوانبها مشرقة، منذ أن لقيته وزاملته كأستاذ في الجامعة، وكان من المبرزين والمخلصين، ولم يكتفِ بدوره في التدريس، بل انطلق إلى فكرة تطوير عمل الكلية، وكان خلية عمل مع زملائه لهذا الهدف، وهذه حسنة من حسناته، ثم احتضن الطلاب، ورعاهم، وسأل عن أحوالهم، ووجههم في خلق وتواضع جمّ.
وهو رجل عرف بوفائه لأسرته، ورضاه لوالديه، وربى أولاده على الخير بنين وبنات، فكان نعم الابن، ونعم الأب، ونعم الرفيق، ووقف في نبل مع أخيه نبيل يوم أخذ يعاني المرض، وعطَّل قبوله في الجامعات، من أجل أداء واجبه الأخوي، فانتقل إلى جواره، وبقي معه، حتى إنه غيَّر تخصصه الذي كان يتمناه في القانون إلى العلاقات الدولية، وهذا موقف أخوي نبيل وإنساني يُذكر ليكشف شخصية هذا الإنسان ونبله.
ثم علينا أن نذكر تلك الأدوار التي لعبها وهو أستاذ في الجامعة، ثم عميدًا لها، وكان يقدم استشارات أمينة، شهد له بها ولي الأمر في أكثر من مناسبة، وقدره واحترمه واحترم إخلاصه، وشهدنا له جميعًا وهو ينتقل من وزارة إلى وزارة، ومن سفارة إلى سفارة، بطهارة اليد، وعفة الأداء، ونبل المعاملة، والتواضع في التعامل مع الناس، والصرامة في الدفاع عن حقوق هذا الوطن.
ألا نذكر لغازي كيف كان يصدح في مجلس الوزراء وهو يطالب بإصلاح مؤسسات حكومية قادها بأمانة، ووعي، ومسؤولية، وإخلاص، وعندما منح وسام الملك عبدالعزيز، وتوالت الأوسمة الرفيعة التي نالها من بلاده، بل من دول عربية وعالمية كانت شاهدًا على استحقاقه هذا التكريم، ولكنني سمعته وهو يتطلع قبل ذلك كله إلى تكريم رب العالمين، ويسأله أن يرضى عن أعماله، ويتجاوز عن أخطائه.
ألا نذكر لغازي يوم أن اشتركنا في تأسيس جمعية الأطفال المعاقين، فكان عضوًا فاعلاً ونشطًا أسهم في نشأة هذه الجمعية، ورعاية هؤلاء الأطفال، في همّة وإخلاص، وإيمان بالهدف الذي كان يسعى إليه، وكيف قدم لنا التخطيط والدعم، وكان يتحرك بهمّة كبيرة في سبيل دعم هذا العمل الإنساني.
ألا نذكر لغازي أنه من رموز النزاهة في كل ما تولاه من الحقائب الرسمية، بل وحتى الخيرية، ودخل وزارات سالت فيها الملايين، وسال معها لعاب الكثيرين، ومع ذلك خرج مكرمًا ومقدرًا من كل وزارة، وكل عمل، والكل يشهد له بتلك المحاسن، فهو مثال للنزاهة والنظافة في اليد والممارسة، وحفظ المال الذي أوكل إليه، وعف عن المال الحرام، بل وضرب على أيدي رجال ونساء مدوا أيديهم، أو حاولوا مدها إلى تلك الأمانات، وكان مخلصًا في إدارته وعمله وتعامله مع الناس. ألا نذكر له هذه المحاسن؟!
ألا نذكر تلك الأيام العطرة التي عشناها معه في رحاب الجامعة أنا وبعض الزملاء من الذين لقوا ربهم أو من ينتظر منهم، وكيف كان وفيًا بسيطًا، ومن الرجال الذين يألفون ويؤلفون، وكان يكره الظلم، ويرفع صوته ويجأر إلى الله: «اللهم أني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم».
وأنا أذكر شخصيًا والزملاء في الوزارة كيف أنه كان يتعفف عن الوشاية بالناس عند أولياء الأمر، ورأيته يمارس ذلك مع الملوك الذين توالى على العمل معهم، رحمهم الله، فكان لا ينقل إليهم إلا الكلمة الطيبة.
ومن واجبنا أن نذكر لغازي أنه لا يحقد رغم كل الذين حقدوا عليه، وعاملهم بإنسانية ومروءة، وكانت من محاسن غازي قدرته على التحرك، ورغبته في الإصلاح، وموهبته في التنظيم والإدارة، وأنا من الذين شهدوا هذه المراحل عند زمالتنا له في جامعة الملك سعود، ثم في الوزارة.
اذكروا لغازي أنه كان رجلاً شهمًا ونزيهًا، يخشى الله ويتقيه، فقد كنت أنا وهو ومجموعة من الزملاء الذين على رأس الوزارة اليوم نسافر معه، ونشهد أنهم ممن كانوا يحافظون على صلاتهم، وممن يخشون الله، عزّ وجلّ، فكانت صورة مشرقة نذكره له، والله، سبحانه وتعالى، هو المطلع على السرائر، ولكننا نشهد له بهذه المحاسن، فاذكروا محاسن هذا الإنسان.
وكلنا يذكر ذلك الموقف الشجاع الذي وقفه في قضية السعودة، وحرصه على أن يأخذ بأيدي الشباب السعودي ليعمل في خدمة هذا الوطن، وكفاحه من أجل تذليل الصعاب، وكانت له نظرته الجادة، واختلف معه من اختلف، واتفق معه من اتفق، ولكن لا أحد ينكر أنها كانت تحركات وطنية واعية ومخلصة، ورغبة في الأخذ بأيدي هؤلاء الشباب لعمل يقتاتون منه، ويخدمون هذا الوطن.
ثم دعوني أقول لأولئك الذي وقفوا في بعض بيوت الله يدعون عليه بغير وجه حق: عليكم أن تراجعوا أنفسكم، ولا تظنوا فإن بعض الظن إثم، وتحسبوا ليوم تقفون فيه بين يدي الله، عزّ وجلّ، ويقف غازي القصيبي يمسك بتلابيبكم يشكوكم إلى الله، فقد تعرضتم لسمعته وعرضه دون وجه حق، والله قد حرّم على المسلم التعرض لعرض أخيه صغر أم كبر، وقد تؤخذ من حسناتكم إن بقيت لكم حسنات، وتعطى له جزاء ظلمكم وغيبتكم لهذا الإنسان دون وجه حق، بدلاً من أن تدعوا له بالرحمة والغفران، بدلاً من أن تمعنوا في ذكر مساوئه، فأقول لكم: كفوا ألسنتكم عنه، إتباعًا لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عندما أوصى المؤمن والمؤمنة بألا يؤذوا إخوانهم المسلمين وأوضحها جلية: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم». «رواه أبوداود، والبيهقي، والطبراني».
اللهم إنا نطيع أمر سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فنذكر لهذا الرجل الإنسان محاسنه، ونسأل الله له الرحمة والغفران. أما الأخطاء، فكل ابن آدم خطاء، وسبحان من كتب على نفسه الرحمة والغفران.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.