حين كنت صغيراً (وصغيراً جداً)، كنت أشعر بالعيد مع بداية العشر الأواخر من رمضان، حين كان والدي -رحمه الله- يحضر الحلوى منذ وقتٍ مبكرٍ، ويأخذنا إلى الخيَّاط (اليمني) الذي كان والدي زبونه الدائم، حيث كان المحل في (زقاق) ضيق وسط أبها التي كانت تستقبل العيد صيفاً مثلما نحن اليوم، كان ذهابي للخيَّاط فقط للتأكَّد من المقاسات ولم يكن لي رأي في الاختيار أو الذوق.
ليلة العيد حكاية أخرى مدتها ثلاث ساعات فقط من بعد العشاء، حيث لا تصل الساعة إلى العاشرة مساءً إلا وكل شيء جاهز للغد، فالحلوى أخذت مكانها وإحدى شقيقاتي قامت بكي ثيابي، والبخور يملأ المكان وقبلها (عصراً) أخذت نصيبي من الحلاقة عند صاحبنا (الباكستاني).
لا تصل الساعة العاشرة إلى موعدها إلا وكل واحد من الأسرة في (مهجعه) بأوامر عسكرية لا أظنها تقبل النقاش، ولم يكن النوم يأتي حتى لو دعوت الله ألف مرة، وأحلام اليقظة تلعب برأسي يمنة ويسرة في تقييم للموقف ليوم العيد وكلّها ترتكز على الثوب والحلوى والعيدية التي سأحكي قصتها بعد قليل.
بعد صلاة الفجر تكون الحياة قد دبت في المنزل وجرت في عروقه كل دماء الأسرة، والمذياع على صوته الأعلى والبخور يزداد حضوراً، ولا غنى للوالد عن كأسٍ من الحليب بالقهوة السوداء كتقليد يومي لم يفارقه حتى مات، وصوته يزداد (قلقًا) كلّما تأخَّر الوقت، وأنا أمام المرآة محتار على أي جنب يجب أن يكون شماغي، وما إن انتهى حتى يأخذني إلى غرفته ويدهن وجهي بدهن العود وقليل من البخور ثم نمضي إلى المصلَّى مهللين بصوتٍ يسمعه البعيد.
هكذا كانت أبها كل أهلها كانوا كذلك، يهبطون إلى المصلى زرافات ووحدانًا مهللين وكأنهم في بطن مكة، والذي كان يؤرقني أن كل الأطفال لبسوا مثلما لبست وكأنهم على موعدٍ لإغاظتي، لكنني كنت أملك ما لا يملكون.. كان أبي والملائكة معي.
ما أن تنتهي الخطبة حتى انطلق بحثًا عن والدي، رافضاً مصافحة أي أحد يعترض طريقي ليبارك لي في العيد حتى لو مد يديه، وما أن انتصب أمامه حتى أقبل خديه ورأسه ويديه بحبور شديد وأبارك له بالعيد، ولا أراه حينها إلا مبتسماً.. كان يقول: إن الملائكة يصلون معنا ويلبسون مثلنا.. كنت أحسبه منهم.
لم أحظَ بأعمامٍ سوى واحد كان (كهلاً) منذ كنت صغيراً حتى توفي -رحمه الله- قبل عامين، ولم يكن لي أخوال، لذلك فالعيدية كانت (كنزاً) بالنسبة لي ولم يجزل لي العطاء يوماً إلا العم حسن وهو رجل تقي استأجر منزلنا ليصطاف فيه كل عام هرباً من جدة، أذكر يوماً أنه أعطاني خمسين ريالاً ومعي شقيقاتي، يومها كاد أن يزورنا الموت من فرط فرحنا.
في ذاكرتي أشياء وأشياء من أيام العيد، وأغانيها التي أحفظها اليوم فلا أنسى (من العايدين) لمحمد عبده و(كل عام وأنتم بخير) لطلال مداح و(أفراحك هلّت) للمجموعة، أما الحلوى فكانت دليل (وجاهة) أن يحضر أبي الماكنتوش وسباقنا وقتالنا على بعض ما فيها حين كنا نجتمع مع أبناء الحي ذكوراً وإناثاً في فناء المنزل ورميها لنا من فوق ويضحك على معركتنا التي كنت لا أخسرها، كان مستمتعا بالعيد معنا.
في ذاكرتكم الشيء الكثير، وذاكرتي ممتلئة بأيام الطفولة، وتعاني من التسريب لأيامنا هذه، وكان هذا هو العيد ومبلغ أمنياتي كانت قبلة حانية وبخور وقطعة من الحلوى وثوب جديد يتم حفظه حتى أول يوم في الدراسة.
m.alqahtani@al-jazirah.com.sa