كثيرة هي تلك المناسبات التي لا تخلو من الطرائف اللطيفة، والمواقف الفكاهية الخفيفة، أحسب أن بعضها يأتي بشكل عفوي وتلقائي، وآخر مصطنع ومدروس، وفي المناسبات الاجتماعية، كالعيد، أو الزواج، أو الاحتفالات بذكرى الميلاد ونحوها تلفت نظرك ويستوقفك بعض المواقف
التي يستعصي عليك تحليلها، أو تفسيرها وتعليلها، أو تجد مخرجا مقبولا لها يرضي شرائح كبيرة من الناس على الأقل.
- كما هو معتاد تخرج بعض المناسبات من الصمت، ورتابة اللقاء، ورسمية الاجتماع، إذ يتخلل بعضها مقاطع من الشعر، أو المساجلات والمطارحات الأدبية، وقد يصحب ذلك بعض الألعاب الشعبية، والعروض والمسابقات المختلفة التي من شأنها الترويح عن النفس، ودفع السأم والملل من الحضور، وشدهم إلى مثل هذه الملتقيات السنوية التي تنظمها الأسر، انطلاقا مما تمليه علينا تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، الحاث على الصلة بين الأقارب والأرحام، وجميع من تربطنا بهم أدنى الصلات، وهي الميزة التي ربما نكون نتميز بها عن غيرنا من المجتمعات الأخرى التي عصفت بها متغيرات كثيرة، وألحقت خللا كبيرا في نسيجها الاجتماعي.
- في إحدى تلك المناسبات كان للشعر حضوره القوي والفاعل، وكما هو معروف لدينا تغليب هذا الفن على غيره من الفنون، بوصف هذا المجتمع يتكئ على تراث عريق، يعد الموروث الشعري بكافة أنماطه وأنواعه أحد الروافد والمقومات لتراثه الخالد. بالفعل استطاع ذلك الشاعر الملهم انتزاع إعجاب الحضور، واستثارة عواطفهم نحو الكثير من القيم الدينية والاجتماعية والوطنية التي لامسها، ومن الطبيعي أن تقابل خاتمة تلك الموهبة بعاصفة من التصفيق المتواصل من الحضور الذين أكبروا فيه تلك العبقرية الفذّة، لكن هذا الموقف ليس هو بيت القصيد، أو ما يستوجب الوقوف عنده، فما أن ترك هذا الشاعر منصة الإلقاء حتى أخذ باللاقط متحدّث آخر، استنكر واستهجن التصفيق، والإفراط بالتصوير، بأسلوب راق مهذّب، كغيره من الواعظين، وكان من المتوقع الاتجاه إلى نقد الشعر، أو ما أشار إليه الشاعر، هكذا خيّل فيما يبدو للحضور من أول وهلة صعد فيها إلى المنصة، وما أن انتهى صاحبنا من الحديث حتى قوبل بعاصفة أخرى من التصفيق، أقوى من سابقتها، وأشد تفاعلاً، وأكثر انسجاماً في الظاهر.
- هذا الموقف مدعاة للتساؤل، لماذا صفق الجميع بحرارة للكل؟ وعلى ماذا يدل ذلك؟ أليس في ذلك دلالة على مساحة الحرية في القول والطرح التي تغلغلت في ثقافة المجتمع حديثا، هذه الحرية، والقبول لكل ما يطرح من رأي، أو قضيّة والتي افتقدناها في سنوات مضت؟ أم أن ذلك يشي عن استهجان واستنكار لما طرح عُبّر عنه بهذا الأسلوب غير المباشر؟ هذا وارد على أية حال، وربما كان الحضور في واد، والمتحدّث في وادٍ آخر، واستدركوا عند النهاية (وربّ مستمعٍ والقلب في صمم) كما قيل، مواقف كهذه تجعلنا نؤمن ونردد بمقولة (لكل مقام مقال)، فعامل الزمان، والمكان، ونوعية الحضور، والمناسبة من الأفضل للمتحدث، أو الخطيب، أو الملقي أيّا كان أن يراعيها، إذا أراد بالفعل أن يكون لحديثه، أو كلماته، أو أشعاره وقعٌ في النفوس، وأثرٌ في القلوب.