لم أكن أراه شهراً بشهر أو حتى عاماً بعام، فضلاً عن يومٍ بيوم.. ولكنني كنت أراه ويراني.. أسمعه ويسمعني.. أقرأه ويقرؤني.. لأكتشف من خلال سيرته الشعرية الصريحة والجميلة، فيما بعد، بأننا كنا متزامنين ولادة،
ومتجرعين حزناً متماثلاً بفقده ل «أمه».. قبل أن يتم عامه الأول، وبفقدي ل»أبي» قبل أن أتم عامي الثاني، ولأتذكّر فيما قبل.. بأننا كنا متزاملين في بعثتنا الدراسية الجامعية إلى «مصر»، هو في «جامعة القاهرة» لدراسة القانون.. وأنا في «جامعة الإسكندرية» لدراسة طب الأسنان وجراحتها، ومع ذلك لم تشأ الظروف أن تجمعني به وإن سمعت به وعنه وعن شعره الفوار الذي كان يلقيه في مناسبات نادي الطلبة البحرينيين بالقاهرة.. فقد كان مشغولاً - عنا - بزملائه.. مستغرقاً مع أصدقائه منهم، فهم الذين تربى وعاش بينهم في المنامة، ودرس معهم مرحلتيْ الابتدائية والإعدادية ثم أقبل على «القاهرة» للحصول على «التوجيهية» من مدرسة «السعيدية».. تمهيداً للالتحاق بالجامعة في عامه التالي.. عام قدومي إليها، وهو ما يعني.. أننا عشنا - معاً - سنوات الألق والتوهُّج في حياة مصر من أواخر الخمسينات إلى أوائل الستينات الميلادية، لكن طالب الحقوق.. كان يحمل قصائده ويذهب بها ذات يوم من أيام صيف عام 1960م إلى إحدى مطابع «بيروت» لطباعة أول دواوينه (أشعار من جزائر اللؤلؤ).. بينما كان طالب طب الأسنان - وفي ذات العام - يحمل خواطره القصصية إلى إحدى مطابع «القاهرة» لطباعة أول كتبه (لمسات)، ثم عدنا إلى أرض الوطن.. ليستقر في «الرياض» وجامعتها الفتية معيداً فمدرساً بعد حصوله على درجة الماجستير من الولايات المتحدة الأمريكية، ولأستقر في «جدة» طبيباً وجراحاً للأسنان في مستشفاها العام في الصباح.. وكاتباً ومحرراً صحفياً في المساء بصحيفة (الرائد) الأسبوعية.
وإذا كان بريق شخصه وقلمه وشعره.. قد استلفت انتباه أبناء العاصمة «الرياض» وأدبائها ومثقفيها.. في عمومهم، وأساتذة وطلبة جامعتها وعلى نحو ملفت من الإعجاب به والتقدير له.. في خصوصهم، فقد استلفتني بسرور بالغ كما استلفت بالتأكيد بعض الآخرين.. نبأ اختياره - وهو المدرس الجامعي.. الشاعر والأديب وخريج «حقوق» القاهرة - ليكون «مستشاراً» لرئيس الوفد السعودي (الشيخ عبدالله السديري) إلى «مؤتمر السلام» في مدينة حرض اليمنية في نوفمبر عام 1965م، الذي ولد من رحم «اتفاقية جدة» في أغسطس من عام 1964م.. بعد مؤتمريْ قمة «الإسكندرية» ف «مؤتمر أركويت» بالسودان، الذي هندسته ديبلوماسية محمد أحمد محجوب رئيس وزرائه.. الناجعة، ليفض أسوأ نزاعات عقد الستينات العربية، ثم أتمته ب»مؤتمر» القمة العربي «الرابع» في أغسطس من عام 1967م في الخرطوم.. لطي صفحة ذلك الخلاف المصري السعودي المدمر، الذي قادتنا توتراته في غفلة من العقل والوعي إلى كارثة حزيران - يونيه من عام 67م.. والتي مازال العرب جميعاً يعانون من آثارها إلى يومنا هذا.
لقد فتحت له تلك الشهور التسعة التي أمضاها في مدينة حرض اليمنية على الحدود السعودية.. الآفاق والأبواب جميعها.. بل وألهمته مشروع رسالته لنيل درجة الدكتوراه لتكون عن (التاريخ السياسي: الداخلي والخارجي لليمن خلال فترة حكم الإمام أحمد)، لتتلقفه بعد عودته من بريطانيا إلى أرض الوطن.. الوظائف القيادية العليا.. بادئاً بقبوله ترشيح الشيخ محمد عمر توفيق - وزير المواصلات.. آنذاك - له لمنصب (مدير عام مؤسسة الخطوط الحديدية)، فكانت تلك وكأنها محطة التقاء غير مباشرة معه أو عنه، ف»التوفيق» الذي رشحه لذلك المنصب.. لم يرشحه من فراغ، ولكن رشحه للعمل معه.. تقديراً له، وإعجاباً به، وثقة بقدراته على القيادة حتى وإنْ كان ل «مجال» غير مجال السياسة والإدارة، وهو ما أحفظ على هذا الترشيح زميله «الأكاديمي»، وصديقه الشاعر الدكتور أسامة عبدالرحمن.. ليكتب معارضاً أو مداعباً لصديقه:
(ما للسياسة ما لها
وإدارة السكك الحديدْ
هلا غدوت «كسنجراً»
يختال كالعلم الفريدْ
بيديه مفتاح السلام
وعنده كسر الجليد)
وقد كان الرئيس السادات يروّج لفكرة «كسر الجليد» هذه بيننا وبين إسرائيل.. باعتبارها هي «المعضلة» ولا غيرها، ليرد عليه الدكتور غازي.. قائلاً:
(إن السياسة فاعلمن في كل ميدان تفيدْ
فن القيادة ليس من علم السياسة بالبعيدْ
والكون تحكمه السياسة في القديم وفي الجديدْ
حتى الإدارة من أفانين السياسة تستفيدْ
فإذا شككت بما أقول وأنت ذو رأي سديدْ
فاسأل «سليمان السليم»، فإنه رجل رشيدْ
أو سل «فتى السعدون» أو سل يا أخي عبدالحميدْ)
لكن «غازي» - على أي حال - سرعان ما قفزت به مواهبه المتعددة من عربات السكة الحديد.. إلى منصب «الوزارة»، ليكون وزيراً ل»الصناعة والكهرباء»، و»زميلاًَ» - بعد عام ونصف - ل»التوفيق» الذي رشحه لأول مرة.. فكان يتحدث عن «غازي».. كلما جمعني به جامع قدومه إلى «جدة»، وقد كان ذلك يحدث كثيراً إبان ولاية عهد الأمير فهد ورئاسته الفعلية لمجلس الوزراء.. خاصة عندما تسنح الفرصة له في منزله - بكيلو عشرة - للحديث عن الأدب والأدباء، والشعر والشعراء.. فكان حديثه حديث الإعجاب بشخصه والاعتزاز بفكره، والتقدير لشاعريته الفذة.. التي كانت تستهويه مجاراتها وإلى حد التعليق ببيت أو بيتين من الشعر الهازل أو الجاد قبل أو بعد جلسات المجلس على ما تحفل به الحياة من أحداث، الأمر الذي زادني إعجاباً ب»الدكتور غازي»، وحباً له، وحرصاً على استكتابه في مجلة اقرأ.. وقد كانت وكأنها تتصدّر المجلات في المملكة آنذاك، فكان أن منحها أو منحني حق نشر كتابه (مائة باقة ورد).. قبل طباعته وإصداره في كتاب، فكان ذلك منه.. وكأنه عربون ل»محبة»، دامت سنيناً وعقوداً.. إلى أن جاءتنا الأخبار «المتكتمة» عن مرضه.. ف «الصاعقة» عن وفاته.
ورغم أنّ المناصب العليا.. قد طافت به من وزارة لأخرى، ومن سفارة لأخرى.. ثم من وزارة ثالثة إلى رابعة مما جعله موصول العيش في ترف دائم، إلاّّّ أنه ظل يحتقر أولئك «الذين يعتقدون أنّ الحياة وليمة شهية، أُعدت ليستمتعوا بطيباتها دون مبالاة، ودون تفكير في الآخرين»!! وأحسب أن نبرة «الاحتقار» هذه وما قابلها من إحساس مضن ب»الآخرين» وظلاماتهم وأحزانهم إنما عرفت السبيل إلى عقله وقلبه عبر تجاربه الإنسانية.. في الأقل، وعبر «الشعر» - في الأكثر - الذي عرف الطريق إليه مبكراً.. وإلى آبائه الكثر الذين تتلمذ على أيديهم: من شوقي وحافظ.. إلى الجواهري وأبو ريشة.. إلى نزار والشابي، ومن ناجي والسياب وأبو ماضي.. إلى العريِّض وعلي محمود طه والمعلوف والعيسى، ومن إبراهيم طوقان وبدوي الجبل وسعيد عقل.. إلى صلاح عبدالصبور وحجازي وأمل دنقل، إلى أبي الشعر والشعراء «أبو الطيب المتنبي».. الذي كتب عنه في صحيفة الحائط المدرسية - وهو في الرابعة عشرة من عمره - ربما أول محاولاته الأدبية.
لكن إحساسه الشعري هذا الذي دفعه لاحتقار أولئك الذين يرون «الحياة وليمة لهم وحدهم»..!، وتجربته الإنسانية التي علمته البكاء من أجل الآخرين، والحزن لأحزانهم.. سرعان ما ألقت به في مواجهة صدمة نفسية لا تقل فداحة عن صدمتيه الحضاريتين في انتقاله من المنامة إلى قاهرة الخمسينات، وفي انتقاله من القاهرة إلى «لوس أنجلوس» في أواخر الستينات.. عندما كشفت له الحياة عن أبشع بشاعاتها في صورة إنسان «لم تره ولم يرك ولم تعرفه ولم يعرفك.. يمكن أن يكرهك ويكيد لك».. ولم يكن ليصدق ذلك، لولا أن رآه بعينيه..!! وعاشه بكل أحاسيس الضجر والقرف من هذا الإنسان وأمثاله!.
وقد تردد فعلاً آنذاك.. على ألسنة بعض الطامحين ممن أغاظهم صعود «غازي» الصاروخي، وتنقُّله من وزارة لأخرى، قولهم: «أليس في هذا البلد.. غير هذا الولد»..!؟ وكأنه شق على هؤلاء «الاعتراف» ب»غازي» وإمكاناته وقدراته ومواهبه المتعددة.. ليقولوا هذا الذي قالوه حسداً وحقداً، فلم يقع ذلك في نفسي موقع القبول به.. فضلاً عن الرضا عنه، إلاّ أنني أنكرت على الدكتور فؤاد فارسي فيما بعد وقد أصبح أول وزير للثقافة والإعلام «معاً».. مبالغته في مجاملة الدكتور غازي، عندما خصه وحده بإلقاء كلمة المثقفين في آخر أيام أول مؤتمر للمثقفين السعوديين يدعو إليه معاليه في الأول من شعبان من عام 1425ه - سبتمبر 2004م، فقد كان يتوجّب أن تحجب مسؤولياته الوزارية والقيادية.. عنه هذا الحق الذي هو دون شك أحد الجديرين به.
على أي حال.. ظل «غازي» رغم الوظائف المحسود عليها، وهيلمانها وأجوائها المحلقة.. لصيقاً بالشعر: يقرأه ويكتبه، ويشقى ويسعد به، ويحب ويكره به. فإذا أحب كتب شعراً.. وإذا حزن كتب شعراً.. وإذا اغترب كتب شعراً.. وإذا صفت له الدنيا كتب شعراً.. وإذا باغتته رماح الغدر في ظهره ووجهه كتب شعراً، فقد كان يكتبه ويتنفسه ويغنيه.. طوال الوقت، ولذلك كتب الكثير الكثير منه.. ولكنه استبعد نصفه الذي لا يليق، والذي يخشى منه، والذي جامل به والده.. ونشر نصفه - أو أقل - في هذه الأحد عشر ديواناً التي تركها، فكان أجملها أولهم (أشعار من جزر اللؤلؤ)، وكان أعمقها رؤى وفلسفة.. تاسعهم (عقد من الحجارة)، وكان أعظمها رابعهم (معركة بلا راية)، التي ظن قراؤه.. بأنه عن معركة حزيران - يونيه 67م والهزيمة العربية.. بينما كان الديوان الذي حمل عنوان قصيدته الأولى (معركة بلا راية) لا يتحدث عن معركة يونيو - حزيران.. بل يتحدث عن «ملحمة الإنسان» مع «الحياة»، وعن شعور كئيب استبد ب»الشاعر» في إحدى الأماسي اللندنية الشتوية القارسة البرد.. من أنه لم يفعل شيئاً، ولم يقدم شيئاً للحياة أو للناس و»أن أيامه لم تكن سوى معركة بلا راية»، لقد كتب القصيدة.. قبل ستة أشهر من معركة يونيه - حزيران، وهي التي يقول فيها:
(أحس بأن أيامي
كهذي الليلة الحمقاء، عاصفة بلا معنى
صراع دونما غاية
ومعركة بلا راية
طواف حول دائرة من الأوهام
تبدأ كلما قلت انتهت وتطول قدامي
وأحلامي
كؤوس إن تعبت شربتها وسكرت
فاستسلمت للدرب
ويا قلبي:
أتعرف أننا ضعنا؟)
إنني هنا، لابد وأن أتذكّر إنصافاً ل»غازي».. بأنّ الفرنسيين الذين يعظمون شاعرهم وروائيهم الكبير (فيكتور هيجو).. وهم على حق، كانوا يقولون إنه كان شاعراً عظيماً فقد كان يكتب سطراً كل يوم (!!) وبمقياسهم.. لابد وأن أقول بأنّ «غازي» كان أعظم من «هيجو».. فقد كان يمكن له أن يكتب قصيدة كل يوم!
على أنّ «غازي».. الذي أحب «الشعر» طوال أيامه، وأفنى أجمل أوقاته في قراءته وكتابته، لم يسلم من أذاه.. وردود الفعل الغاضبة عليه في وزارته. كما في سفارته.. كما حدث عندما نشر قصيدته (ورود على ضفائر سناء) التي قال فيها:
(سناء!
ماذا نقول يا سناء؟
أقلامنا تعفنت من الرياء
لساننا انشق من البكاء
عيوننا الخواء يمضغ الخواء
قلوبنا الحجارة الصماء
ماذا نقول يا سناء؟
لم يبق ما بين الرجال فارس
فأقبلي؟؟
فارسة النساء)..!!
أو كما حدث رغم تكتمه على قصيدة.. أسطورة الحذاء، التي قال فيها:
(مت إن أردت لن يموت إباءُ
مادام في وجه الظلام حذاء)..
لقد كان في «غازي» الموهوب شعراً متدفقاً، ونثراً لا يقل عنه.. «عالماً» ب»حاله» يتجاور فيه الشاعر والأديب، والفنان والفيلسوف، والحكيم و»الميكافيللي»، والمحافظ والثائر.. تماماً كما تتجاور في قسمات وجهه.. تلك الدمعة التي لا تُرى، وتلك الابتسامة.. التي تنسيك الدنيا وما فيها، فعندما التقيته.. في أول وأطول لقاءين تجمعاني به إبان سفارته في لندن (الأول.. في صالون مكتبه، والثاني في ندوته «الربوعية» المتوهّجة بضيوفها وحضوره الطاغي الطلق) كنت قد سبقته إلى مكتبه على موعد إنجليزي.. وفي نيتي أن أعتب عليه موقفه المتشدد من تقرير منظمة العفو الدولية عن الأوضاع في المملكة، وقد كان سلبياً بالنسبة للقيادة آنذاك، ليقبل بعدها بهنيهات من الدقائق مرحباً.. قائلاً: (سبحان الله.. أنا أخب في شحومي ولحومي وأنت ما تزال على رشاقتك)..؟ فقلت أجامله: ولكنها شحوم ولحوم تمتلئ بخفة الظل والروح!! فلم نكد نجلس إلا وأقبل علينا الشيخ عبدالله النعيم.. وبرفقته صديق مشترك له وللدكتور غازي، ليتحدث هذا الصديق (ومعذرة أن نسيت اسمه.. بكل أسف).. مذكراً الدكتور غازي ب»زمالته» له في المنطقة الشرقية، فهز الدكتور رأسه.. مؤيداً، ثم ب»زمالته» له في الرياض.. فهز الدكتور رأسه ثانية، وثالثة وهكذا.. إلى أن قال له: وأظنك درستتني أحد مناهج كلية التجارة عندما كنت عميداً لها؟
فقال له الدكتور غازي: لا.. لا أذكر!! فقد كانت «صلعة» هذا الصديق المشترك أكبر من أن تحمل الدكتور غازي على تأييد ما قاله.. حتى ولو كان صحيحاً، إذ إن ذلك سيعني لنا.. بأن «غازي» قد قارب الثمانين من عمره على الأقل، ليروي لنا الدكتور غازي.. وعلى الفور «طرفة» مشابهة، قد تكون معروفة متداولة.. وقد تكون من بنات أفكاره في تلك اللحظة، عندما قال: كان هناك صديقان.. أحدهما مصري والآخر سوداني، وكانا يدرسان في القاهرة معاً.. من المرحلة «الابتدائية» إلى «الجامعية»، ثم فرقت بينهما سبل الحياة.. حتى التقيا صدفة في القاهرة، فقال السوداني: فاكر يا «فتحي.. عندما كنا صغاراً.. نلعب تحت شجرة الجميز في بيتكم؟
قال فتحي: نعم.. فاكر..
- وفاكر لما كنا نذهب إلى المدرسة سوياً «ببنطلوناتنا» القصيرة..؟
- نعم فاكر..
- وفاكر لما كنا نزوَّغ من المدرسة.. ونذهب إلى السينما معاً في عرض العاشرة صباحاً؟
- نعم.. فاكر..
- طيب فاكر أنك استلفت مني خمسة جنيهات..؟
- لا.. مش فاكر!!
لننفجر أربعتنا ب»الضحك».. وينتهي اللقاء، ويذهب كل منا.. إلى سبيله، وتمر الأيام والسنون.. لأسترجع مشهد تلك السويعة معه وبكل تفاصيلها.. وأنا أكتب عنه الآن لا لأرثيه، ولكن ل»أدردش» معه وعنه.. فهو لم يمت، ولكنه رحل إلى مكان غير المكان.. وزمان غير الزمان. ربما إلى بحر من تلك البحار التي كان يجوبها.. كما قال:
(أجوب البحر ملاحاً
بأشرعة من الذهب
من قدرٍ إلى قدرِ
ومن عجب إلى عجبِ
ومن جزر من اللهب
إلى جزر من السُّحب)!!
جدة