أشرت في مقالتي، الأسبوع الماضي، إلى سعادتي بحضور حفل منح جوائز مؤسسة عبدالحميد شومان، وإلقائي محاضرة في منتدى عبدالحميد شومان الثقافي بعنوان (خواطر حول الوطن والمواطنة).
وذكرت أنني قد سبق أن تحدثت عن جوانب من هذا الموضوع تحت العنوان نفسه، ونشرته هذا العام، وفي حديثي بالمنتدى أشرت باختصار إلى تلك الجوانب، وأضفت إليها أموراً أخرى متصلة بها.
كان مما قلته مختصراً، المنشور سابقاً، كلام عن الوطن والمواطنة لغوياً، واكتساب كل منهما معاني أخرى لم تكن لهما قبل العصر الذي نعيش فيه، وإيراد شيء مما قاله بعض المفكرين من أمم مختلفة كالفرس والهنود واليونان، إضافة إلى العرب الأوائل، عن الحنين إلى الوطن والتعبير عن الحب له، وقلت: ما زال اشتياق العربي لوطنه عارماً، فها هو ذا أمير الشعراء، في العصر الحديث، أحمد شوقي، يعبر عن اشتياقه لوطنه مصر، وهو في فردوس الأندلس، فيقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيلٍ
ظما للسواد من عين شمس
وها هي ذي رائعة من روائع الشاعر خيرالدين الزركلي قالها وهو على ضفاف وادي النيل، معبراً عن اشتياقه إلى دمشق وأحبته فيها، ومنها:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألفت ولا سكنا
ريانة بالدمع.. أقلقها
أن لا تحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحةٍ
حسنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لو لا أنه صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
يا طائراً غنى على غصنٍ
والنيل يسقي ذلك الغصنا
زدني وهج ما شئت من شجني
إن كنت مثلي تعرف الشجنا
وبعد أن ذكر اشتياقه إلى أحبته على ضفتي بردى قال:
لي ذكريات في ربوعهم
هن الحياة تألقا وسنا
إن الغريب معذب أبداً
إن حل لم ينعم وإن ظعنا
وللشاعر العراقي المشهور، محمد الجواهري، رائعة عبر فيها عن حنينه إلى وطنه ومنها:
حييت سفحك عن بعدٍ فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
وأنت يا قارباً تلوي الرياح به
لي النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني
يحاك منه غداة البين يطويني
أما كاتب هذه السطور فحاول أن يعبر عن مودته لوطنه في ثلاث دوائر، أولاها مسقط رأسه ومرتع صباه، بلدة عنيزة، وثانيتها الدائرة الأوسع نطاقاً من بلدته، وهي المملكة العربية السعودية، وثالثتها الدائرة الأوسع من هذه وتلك، وهي الممتدة من الخليج إلى المحيط شاملة لأقطار الأمة العربية كلها.
أما بالنسبة للدائرة الأولى فمما عبرت به عن شوقي إليها أبيات من قصيدة كتبتها بعد عودتي من دراستي العليا في اسكتلندا أواخر عام 1392هـ، ومنها:
كم قد مكثت بعيداً عن مفاتنها
أغالب السهد في سكتلندا مغتربا
لواعج الشوق كم كانت تؤرقني
وكامن الوجد كم أذكى دمي لهبا
من كان مثلي بالفيحا تعلقه
فلا غرابة إن عانى ولا عجبا
أحلى العرائس ما من عاشقٍ لمحت
عيناه فتنتها إلا لها خطبا
تنام ما بين جالٍ كله شمم
وبين كثبان رملٍ كلهن إبا
وإن تأملت أزياء تتيه بها
رأيت من بينها البرحي والعنبا
حبيبتي أنت يا فيحاء ملهمتي
ما خطه قلمي شعراً وما كتبا
رجعت من غربتي كي أستريح على
ربى لدى قلبي المضنى أعز ربى
وأما بالنسبة للدائرة الثانية الأوسع مدى من بلدتي، وهي المملكة العربية السعودية، فما عبرت به عن مودتي لها وافتخاري بما أنجز فوق ربوعها أبيات من قصيدة قدمت بها الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية قبل عشر سنوات.
ومنها:
خطرت فقبل ثغرها المتبسما
وارسم لعينيها الكلام منمنما
لا تكتم الحب الذي أدمنته
حب كحبك هل له أن يكتما؟
هذي الثلوج وإن علت ذراتها
فوديك لم تطفئ جواك المضرما
مازلت متقد الصبابة خافقا
أرخى الأعنة للهوى واستسلما
ومليكة القلب الولوع مليحة
ما طوقت خصرا ولا رشفت لمى
عذرية خلل الطهارة ثوبها
ما أروع الثوب النقي وأعظما!
وطن تضم المسجدين رحابه
أرأيت أطهر من ثراه وأكرما؟
وعلى الشريعة أسست أحكامه
غراء أنزلها الإله وأحكما
ومظاهر الإنجاز أصدق شاهد
عما بناه حضارة وتقدما
وأنا الذي أرواه فيض نمائه
وزها بما قد شيد فخرا وانتما
وتبقى الدائرة الثالثة؛ وهي الأبعد مدى من المحلية والقطرية الشاملة لأقطار الأمة العربية كلها. ومما عبرت به في هذا المجال أبيات من قصيدة باللهجة الدارجة كتبتها قبل خمسين عاما مرتبة على حروف الهجاء. ومنها:
الثا ثبت حب العرب في فوادي
أهل المدن واهل القرى والبوادي
وما بين طنجه والمنامه بلادي
أبيع عمري ساعة الهول دونه
وقبل ثلاثة عشر عاما كتبت قصيدة من أبياتها:
أتيت يحملني عبر المدى قبس
معطر بالشذا الفواح فتان
على جناحين ميمونين حفهما
من مهبط الوحي والتنزيل إيمان
ومن عشيات نجد مستطاب صبا
رياه شيح وقيصوم وريحان
أتيت من وطني شوقا إلى وطني
وأرض يعرب لي دور وأوطان