لطالما اعتقدت أن المدرسة هي جزء مني, يملأ عليَّ حياتي, ولطالما كانت زواياها وفصولها وتفاصيلها الجميلة هي مملكتي وذكرياتي.. فيها تاريخي وحاضري, صدّقت ببراءة أنها مِلكي ومِلك جميع الطالبات حين كانت كل معلمة تردد تلك العبارة المشروخة أن المدرسة هي (بيتكن الثاني) الذي تقضين فيه وقتاً طويلاً لتتعلمن فيه القراءة والكتابة على الورق أو على جدران الحياة, وأكاد أجزم أن كل طفلة تكبر بين جدران مدرستها وتحت جناحيها تعتقد ذلك أيضاً.
ولكن ليس بعد اليوم, حيث سمعت مؤخراً خبراً محزناً ومخجلاً انطلق مع بداية العام الدراسي والذي قد تتابعون حلقاته طيلة هذا العام, مفاده: منع إدارة إحدى المدارس الأهلية العريقة في مدينة الرياض دخول الطالبات اللاتي لم يدفعن قسط هذا العام الفصول في أول يوم دراسي, بل أعادت بعضاً من طالباتها إلى منازلهن, ووصلت الإجراءات التعسفية بأن تمنع من نقص قسطها سهواً 500 ريال من الدخول أيضاً.
أعادتهن يجرجرن أذيال الخيبة والألم والخجل والصدمة, حين أدركن كم هن مخدوعات وأن ما يربطهن مع المدرسة علاقة مادية بحتة ولا شيء آخر فإن دفعت الطالبة القسط دخلت المدرسة وإن تأخرت فستطرد وستغلق كل الأبواب في وجهها بضمير مطمئن ومرتاح.
إدارة المدرسة تلك لم تستطع أن تتحمل أسبوعاً على الأقل ليستطيع أولياء الأمور الحاضرون.. أو ربما المسافرون تأمين المبلغ في أول يوم دراسي من العام الجديد.. بل إنها لم تكلف نفسها بإعلام أولياء الأمور بهذا القرار الكارثي الذي اتخذته, ولم تحذرهم أن أبناءهم الطلاب سيتعرضون لإهانة إدارية تصل إلى حد الطرد إن لم يدفعوا أقساط العام الدراسي الحالي.. ولم يخبرونا أن ما يربط الطالب بمدرسته هو قسطه الدراسي فقط فإن لم يدفع في وقته فهو مطرووود!!
فأي مهزلة تعليمية تلك؟؟.. وأي قلب ذلك الذي يستطيع أن يرجع طلاباً في عمر الزهور ابتاعوا حقائبهم وأقلامهم ووضعوا مصروف الفسحة في جيوبهم ليوم غد, وتوقعوا أن تستقبلهم المدرسة التي اشتاقوا كثيراً لها بحضن كبير, وابتسامة تعلو وجوه المعلمين والمعلمات, ليشعروا طلابهم بعد ذلك بالخجل حين يدخل من دفع ويُحرم من لم يفعل.. وكأننا في سوق تجاري لا شركة تجارية بحتة تحت مسمى (مدرسة)!.
أنا هنا لا أتحدث عن حالات فردية إنما أحترق قهراً لأجل250 طالبة تعرضن لهذه الإهانة في أول يوم, فما ذنب طلاب في الأول والثاني والثالث الابتدائي أن يقحموا بهذه التفاصيل الإدارية والمالية؟؟
لكن سؤالاً هاماً يطرح نفسه هنا.. ما خلف هذا الشره والقلق الكبير والإصرار لدفع الأقساط في وقتها؟!.. وماذا ستقدم الإدارة لطلابها مقابل الأقساط المرتفعة والتعليمات شديدة الصرامة؟؟.. هل شغلت نفسها المدرسة مثلاً هذا العام بتفقد ومتابعة كل جديد في مجال التعليم والتربية الحديثة؟؟.. وهل جابت الأرض شرقاً وغرباً وأتت بكل نافع ومفيد؟؟.. وهل اقتبست من تجارب بريطانيا واليابان والولايات المتحدة وماليزيا في حقل العلم وتنمية قدرات وإمكانيات الطالب؟؟.. وهل بدت المدرسة صيف هذا العام كخلية نحل تبني وتصبغ وتلوّن وتزرع وتركّب أدوات حديثة وتخلق فصولاً نموذجية وطاولات لأربع طلاب لتنمية روح العمل الجماعي؟؟ وهل أرسلت معلميها وموظفيها باختلاف مواقعهم لحضور مؤتمرات عالمية.. أو لأخذ دورات تدريبية وتأهيلية في فن التعامل مع الطلاب وتقبل وبالتالي تقدير اختلاف عقولهم وقدراتهم وشخصياتهم؟؟ وهل أعدت خططاً للأنشطة الإبداعية وسخَّرت الميزانيات السخية لذلك؟! واستقطبت خبراء ليتابعوا جودة نظام تعليمها وإداراتها ومعاملها وفصولها وغيره لتستحق أن تسن تلك القوانين الصارمة وتجبر أولياء الأمور أن يخضعوا أمام تلك الإغراءات التعليمية والتربوية؟!.. أم أنها تطالب بذلك وتهين الطلاب وتتجرأ على طردهم مقابل لا شيء من كل ذلك؟!!
المفترض أن لا تقف وزارة التربية والتعليم موقف المتفرج أمام هذه المهزلة التعليمية؟!
فمَنْ يرد لأبنائنا الطلاب اعتبارهم؟! ومن يحافظ على حقوقهم ويحميهم من ممارسات مماثلة في قادم الأيام؟! ومن يغلق الجرس ويضع سقفاً للأقساط ويوقف هذا الجنون والطمع الذي أصبح ضحيته جيب المواطن المسكين الذي هو أمام خيارين أحلاهما مر, فإما أن يضع أبناءه في مدرسة حكومية ويتحمل رداءة المباني والخدمات والبيئة التعليمية.. أو أن يخضع مجبراً لا بطلاً أمام هذا الصعود المتنامي بالأسعار دون مقابل حقيقي يستحق سن تلك القوانين المستحدثة والمطالبة بالزيادة غير المنطقية بالأقساط؟! الإجابة: لا أحد حتى إشعار آخر!.
نبض الضمير: (من أمن العقوبة, أساء الأدب).