ما إن يقترب موعد افتتاح المدارس حتى تمتلئ الصحف المطبوعة والإلكترونية، بإعلانات المدارس الأهلية، فتطغى على ما سواها من إعلانات، بل وتستولي على مساحات بعض الموضوعات المهمة والأخبار الضرورية، حتى ليخال للرائي أن أهداف التعليم لدينا أصبحت أهدافا مادية صرفة، وصرنا مثل بعض الدول الفقيرة التي تسعى للمادة بيديها ورجليها في كل مناحي حياتها وكأنه ليس لها أهداف غيرها، فبعض أهلها يحب في المال ويكره في المال من ليس له معه أي مصلحة مادية.
لن ننكر على هؤلاء المتاجرين بالعلم أن يسعوا للمادة كأحد الأهداف ولكن ليس كل الأهداف، فماذا يسمى ذلك الشخص الذي يجعل من مبنى متهالك، مدرسة أهلية لبنين أو بنات، ويستفيد من كل بقعة فيها (حتى المطبخ)، حيث يجعله فصلا من الفصول الدراسية، ويصرف للمعلمات السعوديات رواتب زهيدة لا تزيد عن ألف ومائتي ريال، ثم يقوم بعد كل ذلك بزيادة قسط هذه المدرسة (الرائعة) شكلا ومضمونا ! علما أن الدولة ممثلة في وزارة التربية والتعليم تدعم المدارس الأهلية دعما ماديا جزلا يحتاج لإعادة النظر فيه أو تدقيق الرقابة على نتائجه.
وآخر حادثة أليمة لافتة في التعليم الأهلي هو ما فعلته مدرسة أهلية شهيرة يملكها مسؤول سابق، حيث احتجزت الطلبة والطالبات الصغار والكبار مجموعات وفرادى في اليوم الدراسي الأول في إحدى الساحات كقطيع الغنم المهان، وفيهم أطفال أبرياء يدخلون المدرسة لأول مرة، منهم على سبيل المثال طفل صغير احتجزوه لوحده في مرسم خالٍ على البلاط البارد كأن به مرض معدٍ! لماذا كل ذلك؟ لأنهم لم يحضروا قسط العام الدراسي كاملا قبل الدخول للجنّة عفوا أقصد المدرسة المميزة! فهل يعقل هذا؟ نحن في المملكة العربية السعودية وبين شعبها الكريم غني القلب واليد، ألا يوجد صبر ولو ليوم واحد ينبه فيه الأهل بخطاب عن طريق الطلاب والطالبات لإحضار (الغلة) أو الأقساط، ثم بإمكانهم منعهم من دخول المدرسة في الغد إذا لم يحضروا المقسوم؟!.
أما أن يكون المنع وبهذا التصرف المشين من أول يوم دراسي وبعد أن يتورط الأطفال بالدخول للمدرسة وهم فرحين مستبشرين فهذا والله هو الفعل الصدمة، وكأن الناس رموا بفلذات أكبادهم ليد من لا يرحم ومن لا يوثق به، إلى حد أن أحد هؤلاء الأطفال وأنا أعرف والدته معرفة تامة وأثق بها ثقة كبيرة أخبرتني أن طفلها الذي دخل المدرسة سعيدا لأول مرة خرج وهو في غاية التعاسة والصدمة ثم مزق مريلة المدرسة، ورفض العودة لأية مدرسة مطلقا، لقد ترسبت عقدة كبيرة في هذا الطفل وغيره منذ اليوم الأول لدخول المدرسة، إضافة إلى أن مسؤولي ومسؤولات المدرسة عرفوا أنه تصرف خاطئ فاختفوا جميعا عن الأنظار وأغلقوا هواتفهم النقالة، وكأني بهم متأكدين أنه تصرف ابتزازي أو هروب من عمل مخز، ولم يجد أولياء الأمور من يخاطبونه أو يتواصلون معه إلا محاسبا متعاقدا لكي (يلمّ المعلوم) لأصحاب المدرسة!!
لا أجد تعبيراً يتلاءم مع هذه المواقف غير تعبيرات جداتنا المؤثرة وهي (يا خزياه ويا عيباه)، هل وصل الأمر بمن ينتمون للتربية أن تصدر منهم مواقف غير تربوية ويرسِّبون في أبنائنا وبناتنا عقداً أبدية لن ينسوها طيلة حياتهم؟ هل يعتقد هؤلاء وأمثالهم أن الله سيبارك لهم في أموالهم، أم أن أمثال هذه التصرفات ستمحق بركتها؟! وماذا تركوا للمستثمرين الأجانب إذا كانت هذه تصرفات أبناء الوطن أنفسهم والتربويين بالذات؟!
لقد تعلمنا جميعنا منذ الصغر أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان يقول {رحم الله امرئا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى}، إذا كان هذا المفترض في البيع المادي فكيف الحال في حال بناء النفسيات والعقول؟! حقاً يا للعار فجأة فتحنا أعيننا بعد غمض يسير فوجدنا أننا صرنا مجتمعاً مادياً بكل المقاييس، فبعد أن كنا لا نطمئن إلا للدراسة والعلاج في وطننا الحبيب أصبحنا لا نرى فرقا بينهما وبين الخارج، فهاهي المستشفيات الأهلية تحتفظ بجثث الموتى حتى يسلم أهاليهم لهم وزنها ذهبا، وتناسوا أنه في دول العالم المتقدم يطالب أهل المريض المتوفى من المستشفى تعويضا ماديا عن تدهور حالة مريضهم وعدم نقله إلى مستشفى آخر!.
الأمر المستغرب هو لماذا لم يعد الناس راغبون في إدخال أبنائهم وبناتهم للمدارس الحكومية؟ هل لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي إلى هذا الحد؟ أم أنه حب المظاهر الكذابة التي غزت مجتمعنا في الصميم وبقوة في جميع المجالات والمدارس من ضمن هذه المجالات؟ إن الإجابة على هذا التساؤل واضحة للأسف، لأني ألحظ - وللحق - حسب خروجي مشرفة للتطبيق العملي بالجامعة، أن المدارس الحكومية لا يزال فيها الرمق ويبذل فيها جهود تفوق جهود العديد من المدارس الأهلية سواء في المبنى أو المعنى، ومع ذلك حينما سألت إحدى الأمهات التي أدخلت ابنتها لمدرسة تجارية متواضعة: لماذا أدخلت ابنتك إلى هذا السرداب؟ وهو مبنى مدرسة تُشعر بالضنك والاختناق، أجابت فوراً: (لأنهم يعلّمون عيالنا اللغة الإنجليزية منذ الصغر)! فهل هذا هو مبرر قوي حتى يهدر الناس أموالهم دون طائل إلا اللغة، أليس من الأولى أن يتأسس الطفل في لغته الأم ثم بعدها يتعلم اللغة الأجنبية التي يكفيها دورة مكثفة في الصيف، أو أن تضيفها الوزارة في مناهج السنة الرابعة الابتدائية بعد أن يقوى عود الطفل بعض الشيء.
أما السبب الثاني لهذا التهافت على المدارس الأهلية حتى صارت تجارة من لا تجارة له، هو أنها تعطي نسبا عالية لطلبة وطالبات الثانوية العامة، حتى أنهم صاروا يتّكلون عليها فيهملون المذاكرة الحقيقية، ولكن جاء امتحان القدرات الخاصة ففضح المستور، وقلل أهمية تلك المدارس التي كان الناس في السابق يستقلون شأن من ينتظم فيها، ثم انعكس الحال فصارت مفخرة، فضرورة شكلية فرضها الناس على أنفسهم.
إن الواقع المؤسف للعديد من المدارس الأهلية أضحى يستدعي التدخل المباشر من وزارة التربية والتعليم، والفرملة من الأهالي من خلال أخذ المواقف الجماعية التي تقول للمخطئ: أنت أخطأت، وللمصيب: أنت أصبت، وإلا فسيتحول التعليم عندنا إلى عملية تجارية بحتة، يغبن فيها المواطن مستور الحال ويضيع فيها طالب العلم، بدل أن تكون استثماراً بشرياً عظيماً يعقد عليه الوطن الآمال.
دندنة أخيرة:
أود أن أوضح للإخوة والأخوات الكرام المتسائلين أن المقالة تصدر كل اثنين وأحياناً قليلة كل ثلاثاء كما حصل في الأسبوع الماضي، وكذلك أنبه على خطأ طباعي في رقم كود الصحيفة حدث في المقالات الأخيرة حيث زيد رقم ثمانية في النهاية مما أغلق التواصل فعذراً.