هناك مشكلة حقيقية تعاني منها كثير من البيوت السعودية، ومع أنها مشكلة دائمة ومتجذرة إلا أنها تظهر بشكل سافر وجلي مع بداية العام الدراسي وتستمر حتى نهايته بلا انقطاع ، نظراً لارتباطها المباشر والقوي بتوصيل الزوجة العاملة و الأولاد الصغار للمدارس والكليات، وهي في المدن الكبرى كالرياض وجدة أوضح منها في بقية مدن المملكة مع أنها بدأت تتفاقم حتى في المدن الصغيرة وللأسف الشديد ،والقصص التي نسمع والحكاية التي تروى كثيرة وموجعة، والحل المثالي الذي يطلبه الجميع ويتوق لرؤيته على أرض الواقع توفر النقل العام بشكل صحيح ومنظم وراقي يتلائم ومختلف طبقات المجتمع خاصة الوسطى، وهذا النوع من النقل هو الموجود والفعال بشكل إيجابي متميز في بلاد العالم بأسرها خاصة الأمريكية والأوربية.. وللمعلومية فقد عقد الكثير من الندوات وورش العمل التي تهدف بشكل مباشر لإيجاد الحلول الفعلية لهذه المشكلة المجتمعية المعقدة، وكان الكلام جميلاً والتوصيات رائعة والنتيجة الفعلية على أرض الواقع صفر «لاشيء» وللأسف الشديد!!، ومن خير الأمثلة في هذا المقام ورشة العمل التي أقامتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في شهر رجب من عام 1421ه (نحو تطوير نظام نقل آمن وفعال في مدينة الرياض) إذ ذكر تقرير الورشة الفني المنشور أن ما يزيد عن 93 % من الرحلات اليومية داخل مدينة الرياض تتم بواسطة المركبات الخاصة بينما تشكل رحلات حافلات النقل العام 2 % فقط من مجموع الرحلات المتولدة في العاصمة، وفي ورقة العمل التي قدمها الدكتور جلال نفاخ مدير وحدة النقل بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض والمعنونة ب»نظرة عامة حول نظام النقل في مدينة الرياض ودور النقل العام». اتضح أن عدد الرحلات المتولدة في مدينة الرياض يبلغ حوالي 5 ملايين رحلة في اليوم، وأن عدد الكيلومترات المقطوعة بواسطة هذه الرحلات تصل إلى 60 مليون كيلومتر في اليوم بمتوسط سرعة بلغ 52 كلم - ساعة. كما توقع الدكتور أن يصل عدد الرحلات خلال العشر سنوات القادمة أي عام 1431ه الحالي إلى أكثر من 8 ملايين رحلة في اليوم، وأن يزيد عدد الكيلومترات المقطوعة عن 100 مليون كيلومتر في اليوم، وأن يتدنى متوسط السرعة إلى حوالي 20 كيلو - ساعة.
وأوضح تحليل خصائص هذه الرحلات إلى أن 27% منها هي رحلات تتعلق بالمدرسة، وتعتمد بصور أساسية على السيارة الخاصة كوسيلة للتنقل!!.
ومن هنا يتضح استحالة استيعاب معدلات نمو الحركة الحالية وتأثيراتها، ما لم يتم اتخاذ إجراءات للحد من الاعتماد على السيارة الخاصة، وتحسين كفاءة شبكة الطرق والتقليل من تلوث الهواء.
كما أوصت الدراسة بضرورة الاهتمام بتطوير سياسات استخدامات الأراضي بصورة خاصة لتقليل عدد وطول رحلات السيارة الخاصة والاتجاه نحو النقل العام.
وعن الورشة عموماً فإنها اختتمت أعمالها بحزمة من التوصيات الرائعة والهامة التي أنا شخصياً ومثلي كثير أتمنى أن ترى النور فهي نابعة عن معرفة ودراية بالمشكلة واطلاع وقرأت للتجارب العالمية خاصة البرازيلية والفرنسية والإنجليزية.
إن النقل العام بمواصفاته التي يطلبه المواطن السعودي اليوم (مركبات فخمة ومكيفة ونظيفة، ومواقف خاصة ومحددة عبر خارطة واضحة ودقيقة، وحركة مرورية مستقلة عبر خطوط واضحة وخاصة لا يمكن لأحد أن يسير عليها مهما كانت الظروف وأياً كان الشخص صاحب المركبة الخاصة، والتزام بالوقت بدقة متناهية) متى ماكان النقل العام بهذه المواصفات فهو مجدي اقتصادياً ونافع اجتماعياً وفاعل سياحياً، ولو حدث ذلك - وما يدريك أن يكون قريب - لكن النقل العام الوسيلة المثلى أمام الموظف والطالب والمعلم من الجنسين للتنقل والذهاب إلى مدارسهم والأماكن العامة المحددة والمعروفة، ليس هذا فحسب بل ربما صار كبار الموظفين في قطاعات الدولة المختلفة يفضلون أن تكون تحركاتهم إلى مقار أعمالهم ذهاباً وإياباً على سيارات النقل العام المجهزة بكل وسائل الراحة، فالعقل يقول (خير لي أن أقرأ كتاباً أو جريدة وأنا أتوجه إلى مكتبي في النقل العام من أن أعيش بسيارتي الشخصية لحظات عصيبة وسط الزحام مرتين في اليوم على الأقل).
إن غياب النقل العام داخل المدن السعودية ولد السوق السوداء للنقل الغير منضبط والذي يخفي وراءه كثيرا من المشاكل العمالية والتستر الأجنبي والويلات الأسرية ، فالعامل صاحب البقالة والخياط والبائع في سوق الخضار و... هم من يتقاول مع البيوت التي لا تستطيع أن تستقدم سائقاً خاصاً بها لإيصال الزوجة والبنات إلى الجامعة والمدرسة والسوق والمشغل بل وحتى مناسبات الزواج والحفلات والاستراحات، ومن أشهر المشتغلين في هذه السوق المظلمة بسوادها الضبابية في تعاملاتها الفاقدة للشرعية النظامية من أساسها «سواق أبو عشرة» الذي يقوم على فلسفة اتصل و نحن نصل ونوصل لأي مكان تريد بعشرة ريالات دون أن يكون هناك أي سند نظامي يسمح له بممارسة هذه المهنة وقد تزيد التكلفة في بعض المدن مترامية الأطراف إلى عشرة أضعاف إلى أضعاف كثيرة وإلى لقاء والسلام.