نحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة متقدمة من النهضة الصحية والتعليمية نلمح بوارقها من خلال ظاهرتين تسطعان كالشمس في الأفق العريض. الظاهرة الأولى هي الانتهاء من أو الشروع في إنشاء مائة وخمسين
مستشفى حكومياً - من بينها مستشفيات مرجعية وأخرى جامعية وعلى نطاق شمل جميع مناطق المملكة وقطاعاتها الصحية، وتزامن ذلك مع إنشاء وترسية مشروعات إنشاء لما يقارب ألفاً وخمسمائة مركز صحي تكون بديلاً لمراكز صحية مستأجرة أو متهالكة، وتخطط وزارة الصحة لأن يصل عدد المراكز الصحية إلى ألفين وسبعمائة مركز صحي وصُدرت تراخيص لإنشاء وافتتاح مستشفيات ومجمعات طبية أهلية جديدة ستوسع كثيراً من قاعدة تقديم الرعاية الصحية في المملكة.
أما الظاهرة الأخرى فهي - بجانب تطوير مناهج التعليم العام - بناء حزام جامعي محكم حول أطراف المملكة في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، بحيث أصبح يوجد في المملكة خمس وعشرون جامعة حكومية وثلاث جامعات أهلية وعدد كبير من الكليات الأهلية أو الكليات الحكومية المنفردة. هاتان الظاهرتان تلتقيان في أمر مشترك يتمثل في التعليم الصحي الذي يتوقع منه أن يمد تلك المنشآت الصحية الجديدة والقائمة بقوى العمل الوطنية المؤهلة لتقديم الرعاية الصحية إلى سكان المملكة.
هؤلاء السكان يتزايدون كل عام بمعدل يراوح 2.5%، وبلغ عددهم حسب التعداد الأخير (جمادى الثانية 1431هـ) سبعة وعشرين مليوناً منهم 31% وافدون مقيمون. التعليم الصحي لم يعد تحت مسئولية عدة جهات كما كان في السابق، حينما كانت وزارة الصحة مسئولة عن معاهدها وكلياتها الصحية المتوسطة وكان التعليم الصحي الأهلي ينحصر على الأغلب في المعاهد الصحية التي أُنيطت مسئولية الإشراف عليها بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية. اليوم أصبحت مسئولية التعليم الصحي موحدة في وزارة التعليم العالي وجامعاتها، توحدت المسئولية حقاً لكنها بهذا قد تضخمت، فالوزارة -أولاً - تشرف على خمس وعشرين كلية للطب البشري وتسع عشرة كلية لطب الأسنان وخمس عشرة كلية للصيدلة وعشرين كلية للعلوم الطبية التطبيقية وست كليات للتمريض وعدد من كليات المجتمع التي تضم برامج للتخصصات الصحية.
وثانياً: هي تشرف على ما تبقى من الكليات والمعاهد الصحية التي انتقلت تبعيتها إليها من وزارة الصحة عام 1429هـ وعددها 37 كلية صحية متوسطة وخمسة معاهد صحية للبنات - وذلك بعد إعادة هيكلتها من قبل الجامعة التي ألحقت بها. ثم هي - ثالثاً - تشرف على الطلاب المبتعثين لدراسة العلوم الطبية والصحية في جامعات خارجية وعددهم يناهز الأربعة آلاف. أما الأعداد الأخرى ممن يدرسون في الخارج إما على حسابهم الخاص أو على حساب جهات عملهم، فإنهم على أي حال ليسوا بعيدين عن إشراف وزارة التعليم العالي. ورابعاً: وأخيراً فإن الوزارة ترخص وتشرف أكاديمياً على الكليات الصحية الأهلية التي توسع القطاع الخاص في افتتاحها في السنوات القليلة الماضية، وتدرس في الوقت الحاضر طلبات الترخيص لمزيد من الكليات. أما التعليم الصحي الفني الذي ينتهي بدرجة الدبلوم فيكاد ينحصر إذن في المعاهد الصحية الأهلية التي تخضع لإشراف الهيئة السعودية للتخصصات الصحية وقد تقلص حجمه، كما تدل على ذلك أرقام المقبولين في هذه المعاهد، علماً أن مجلس أمناء الهيئة يضم أربعة ممثلين لوزارة التعليم العالي أي أنها تمارس بشكل غير مباشر دوراً في الإشراف على هذه المعاهد. إن كل هذا الذي استعرضناه بشكل موجز شيء حسن، بل ويبشر بقرب تحقيق هدف السعودة التي طالما حلمنا بها. فما الذي يقلق في الأمر؟ أقول إن القلق يساورنا في نواحٍ ثلاث:
الأولى في ناحية المدخلات فنتساءل عن مدى إمكانية تطبيق معايير للقبول بهذه الكليات الحكومية والأهلية جميعها بنفس المقدار والجودة والجدية، وكذلك عن مدى تطبيق معايير تبعث على الاطمئنان لقبول الدارسين في الجامعات الخارجية. ولا يقل أهمية عن ذلك مدى تناسب أعداد المقبولين مع الإمكانات المتوافرة في الكليات الجديدة - وخاصة الأهلية، وتحديد عدد المقبولين في أي كليه وأي تخصص على ضوء الاحتياج الفعلي في سوق العمل. بهذا العدد الكبير من الكليات وفرص الابتعاث فقد فتح الباب على مصراعيه للالتحاق بالكليات الصحية، وتحقيق مطلب كان يلح منذ سنوات على زيادة عدد المقبولين في الكليات الصحية - وخاصة كليات الطب. وكان ذلك المطلب يقابل باعتراض من عمداء الكليات الذين أبدوا - وهم محقون في ذلك- تخوفهم من غلبة الكم على الكيف على حساب مستوى الخريجين. فالآن يمكن توزيع حشود المقبولين على عدد كبير من الكليات الحكومية والأهلية. فهل يتوافر في جميع هذه الكليات الإمكانات التي تضمن مستوى جيداً للطلاب، وهل ستكون الكليات -خاصة الأهلية - ملتزمة بتحقيق هذا المستوى؟؟ كثرة الكليات الصحية الحكومية تمثل تحدياً كبيراً للمؤسسات التعليمية الأهلية لأنها توسع فرص القبول بالجامعات الحكومية أمام خريجي الثانوية العامة وتحرم تلك المؤسسات من هذا المصدر الثر الذي كانت تستدرجه إليها- بسبب قفل باب القبول - للالتحاق بمعاهدها الصحية (وصل عدد هذه المعاهد حتى عام 1430هـ إلى مائة وعشرين معهداً - أي ثلاثة أضعاف المعاهد والكليات الصحية المتوسطة التي كانت تتبع وزارة الصحة). وبعد أن انفتح باب القبول في الجامعات الحكومية تحول اهتمام القطاع الخاص إلى فتح كليات صحية تمنح البكالوريوس لما ظهر من الحوافز المشجعة التي تمثلت في قرار وزارة الصحة بقصر التعيين على وظائفها بعد ثلاث سنين على حملة البكالوريوس وفي المنح الدراسية التي تعطى للطلاب من قبل وزارة التعليم العالي أو صندوق الموارد البشرية، وفي فتح المجال أمام حملة الدبلوم للحصول على درجة البكالوريوس من خلال نظام التجسير الذي أقرته وزارة التعليم العالي. وقد بلغ من حرص بعض الكليات الصحية الأهلية على جذب الطلاب إليها أن قامت بالترويج للالتحاق بها في أوساط الفنيين من حملة الدبلوم القدامى العاملين في الجهات الصحية واضعة أمامهم بارقة أمل في أن يصبحوا يوماً ما أطباء من خلال برنامج التجسير. بل ربما وجدت مكاتب سمسرة تتقاضى عمولة عن كل طالب مستجد. ومع أن مسارعة القطاع الخاص بفتح الكليات جاءت - كما يقال - في الوقت الضائع، إلا أن ذلك لا يحول دون الترحيب بها وتشجيعها، فهذا أساس ثابت في الإستراتجية الصحية التي اعتمدها مجلس الوزراء في رمضان عام 1430هـ. إلا أن صحة هذا التوجه مشروطة بتطبيق معايير القبول الجيدة وتوفير الأسس والإمكانات اللازمة لتحقيق مستوى تعليمي جيد وتلبية احتياجات حقيقية يتم في ضوئها تحديد الأعداد المقبولة وأولوية التخصصات. وهناك قلق آخر يتعدى المدخلات إلى الناحية التعليمية التي يتم من خلالها تأهيل الملتحقين بكليات العلوم الصحية ومعاهدها وأقسامها لممارسة المهن الصحية وهذه مسألة تخص الأطباء وتخص أيضاً بنفس المقدار والأهمية زملاءهم في العمل الصحي من صيادلة وأخصائيين وفنيين في العلوم الطبية التطبيقية والتمريض. أليس من حق المريض أن يطمئن إلى من يقدم له الرعاية الطبية من حيث كفاءته وإخلاصه وإتقانه لعمله - سواء في التشخيص والعلاج أو في التمريض أو في إجراء التحاليل ومتابعة دقة النتائج أو في التعامل مع تقنية التصوير الإشعاعي أو في صرف الأدوية وإرشاد المريض لاستعمالاتها، أو في العلاج الطبيعي أو في قياس السمع والنظر أو في تخطيط القلب والمخ وغير ذلك من المهمات الطبية. إن إتقان هذه المهمات يتطلب التعليم المتعمق من مدرسين أكفاء ذوي تأهيل وخبرة في مجال تخصصهم لا يلجؤون إلى مجرد التلقين وحفظ المذكرات. وتوفير هؤلاء في هذا العدد الكبير من الكليات الحكومية والأهلية يتطلب جهوداً شاقة ومعايير سليمة. وقد يتساهل المرء في العدد ولكن ليس في النوعية ولا في عمق وكفاية التحصيل الدراسي، ذلك أنه قد يكون المنهج الدراسي جيداً من الناحية النظرية ولكن التطبيق رديء. إن هذا المطلب ينطبق أيضاً على الدارسين في الخارج.
.... يتبع غداً