لا ينقطع عجبي من تفنن البعض في توريطنا في المناطق الضيقة، وحبس أشعة المستقبل من أن تسطع على حقول حاضرنا؛ فتضعف بذلك قدراتنا على الدفع بذواتنا ....
.... ومنظماتنا وشعوبنا وحكوماتنا ودولنا في سبل النهضة ودروب التنمية...نعم ثمة من يبتكر وسائل تورطنا بمعارك الماضي وخسائر الأمس؛ بدلاً من التفكير بتحديات المستقبل وأرباح الغد.
لقد كنت ممن يعلق آمالاً على الأعمال الفنية في التعبئة الحضارية، وتصحيح طرائق التفكير، وغرس الأطر القيمية والمهنية في العمل والإنتاجية، ومجابهة الفساد والمفسدين على مختلف أحجامهم وتنوع مجالاتهم، وإشاعة أجواء من التسامح والتعايش؛ مع ما تؤديه تلك الأعمال من الترويح عن النفوس بقوالب إنسانية فنية راقية، لا سيما أن العالم يشهد تقدماً مدهشاً في الصناعة الإعلامية بكافة أشكالها، مع انخفاض التكاليف وسهولة الحصول على التجهيزات الفنية، وتواجد المفكرين والمثقفين والروائيين الذي يمكن أن يصنعوا لنا (سيناريوهات متحضرة)؛ تسهم في إنتاج أعمال فنية؛ في سياق ندرك فيه أن الصورة التلفزيونية تملك تأثيراً طاغياً على العقول، وتوجّه التفكير بطريقة جوهرية، وتحتل إلى الأبد مساحات من الذاكرة والوجدان. لقد كنت أحد أولئك الذين يعلّقون آمالاً على الأعمال الفنية في معاونتنا في الخروج من مأزق التخلف والتشرذم والانحباس في ويلات التاريخ، ولا أزال كذلك، غير أن ثمة أشياء حدثت في الفترة الأخيرة كدّرت صفو تلك الآمال، وشحنت الأجواء بما دفعني إلى التحذير المباشر من مخاطر يُحتمل انقذافها من مدافع العمل الفني ذاته، كيف هذا؟ ولماذا؟ ومن وراءه؟
كي لا أطيل في التحليل أو التحليق حول الموضوع فسوف أدخل في صلبه دون أن أتورط ببعض التفاصيل التي قد تجرنا إلى اختلافات جزئية لا طائل من ورائها. في رأيي أن (الدراما التاريخية) باتت من أخطر الساحات التي تشهد نوعاً من التجييش في الآونة الأخيرة في المشهد الإعلامي والثقافي العربي، ودخل البعد الطائفي على الخط، وتم استدراج بعض الفنانين العرب المرموقين وبعض المنتجين، بل شاركت قنوات رائجة في معركة أراد لها المخططون - كما يبدو - أن تكون خفية على الأكثرية، إلى حين أن تُحكم أظفارها في جسدنا المنهك، بعدها يعلنون أن ثمة حرباً قائمة وأنهم على أهبة الاستعداد لخوضها والاستمرار بها إلى حين التغلب على الخصم وإجباره على الاستسلام أو الهزيمة، خاصة أن رمضان تم (احتلاله) تماماً من قبل (جنرالات الإخراج) و(قادة الإنتاج) و(عساكر الفن)، فضمنوا بذلك اشتراك الملايين في المعركة أو على الأقل مشاهدتها بطريقة لا يحتمون في الغالب من حممها وشظاياها، ولو على مستوى التشويش الفكري واهتزاز القناعات تجاه قضايا معينة أو أحداث أو أشخاص مهمة، والتاريخ سجلاته مليئة بما يوقد حروباً شرسة طويلة، والتي قد تكون حروباً على مستوى العقول والقلوب، ما يخلق تنافراً معرفياً مؤثراً سلباً على التعايش السلمي بين شعوبنا وطوائفنا في امتداد العالم العربي والإسلامي أيضاً، وهنا يمكننا استحضار كلمة جميلة لعباس العقاد، حيث صرخ قائلاً (ويل للتاريخ من المؤرخين، لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيد الحياة ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرؤونه، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط ولم ينظروا إليه!)، مع أنني أقول ليحتفظ كل طرف بما يعتقد أنه (حقائق تاريخية)، فهذا شأنه، ولكن الأهم أن يبعدوا حاضرنا ومستقبلنا عن أحقاد التاريخ وثاراته وإشكالياته. وسأضرب مثالاً واحداً على الأعمال الفنية الأخيرة التي حملت قدراً من الشد والجذب الطائفي على وجه التحديد والمتمثل في فيلم القعقاع بن عمرو التميمي، وقد شهدت ساحات الحوار والمنتديات النتيجة نقاشات ملتهبة إلى أبعد حد، ونحو ذلك من الأعمال الفنية التي سبقت ذلك الفيلم والأعمال الأخرى المرشحة للظهور في الفترة القريبة، لتلعب أدوارها هي الأخرى في التشويش والتفريق والقولبة الطائفية في أجواء مشحونة من جراء عوامل فكرية وسياسية واجتماعية في منطقتنا، لم تعد خافية على أحد. وهذا لا يعني البتة أني أتوجه بالحكم على من أنتج ذلك الفيلم بأن له أجندة في سياق ما أحذر منه، فالنوايا مؤكد أنها جيدة، ولكن هذا لا ينفي اندساس البعض مما يحمل مثل تلك الأجندة أو بعضها، والعبرة أن ذلك العمل قد أدى إلى نتيجة خطرة، بغض النظر عن نوايا جميع المشاركين فيه أو بعضهم، فقد تحرك الفيلم فعلاً في دائرة التطييف - أي جعله طائفياً- والتشدد والغرق في متاهات التاريخ في نهائية المطاف.
وكل ما سبق يجعلني أطالب الفنانين العرب بالامتناع عن الدخول في عملية تطييف الفن وحد شفرته؛ ليذبحنا التاريخ من ثم بحجة الفن وممارسة الحرية فيه، وأنا ممن لا يعترضون على مبدأ الحرية المقننة، فهي فضاء الإبداع بالتأكيد في الفكر والفن، غير أنني أحذر من استغلالها بطريقة أو بأخرى لجرنا إلى ساحات حرب فكرية وطائفية، من شأنها تقويض ما يبنيه العقلاء في سنوات، فمسلسل واحد قد يهدم أبنية متماسكة شيدت من قبل مئات البناة المهرة من (دعاة المستقبل) و(وعاظ النهضة)، وأعود إلى الفنانين - لدورهم الجوهري في الأعمال الفنية - لأحملهم مسؤولية تاريخية، لاسيما المثقفين منهم - وهم كثير - وينسحب الطلب على المخرجين والمنتجين وكتّاب السيناريو وغيرهم من المسهمين في إنتاج منظومة الأعمال الفنية... أقول لهم كفوا عن الدخول في هذا العبث الخطير أو ما ُيراد له أن يكون طريقاً موصلاً إلى عبث حقيقي مدمر يدرك آثاره الجميع، ولكن بعد أن ُنصاب بوابل من التعصب والتشدد والحقد والكراهية بين أفراد وجماعات وطوائف متعايشة على أقل تقدير، ويجب أن تظل كذلك. وعتبي كبير على بعض القنوات الإعلامية التي راحت تغذي الدراما ببعض ما يؤدلجها فكرياً وطائفياً، فدخلت في سوق الطلب والعرض والإنتاج لمثل تلك الأعمال الخطرة؛ في انسياق وراء الكسب الجماهيري وما يتبعه من الربح المادي على حساب مشروعنا الوحدوي على المستويات الوطنية والقومية... نعم ثمة عتب وعتب كبير أيضا على القنوات فهي العامل رقم واحد في الصناعة الإعلامية، فهي من يمتلك قرار الشراء والعرض (طبعاً ومن يقف وراءها)، غير أنني مع هذا لا أزال أحتفظ بقدر كبير من الأمل في تلك القنوات بأن يراجعوا هذا النهج، ويتدبروا المسألة في أبعادها الأخطر... فتلك الأعمال الفنية وإن حملت أرباحاً مغرية في المدى القصير وربما سبقاً أو كسباً جماهيرياً فهي تحمل قطعاً خسائر فادحة في المدى الطويل. وأجزم بأن المصلحة الوطنية والقومية تقضي بأن نكف تماماً عن مثل تلك الأعمال الدرامية التاريخية، إلى أن نصل إلى بناء ميثاق أخلاقي إعلامي يحكم صناعة مثل تلك الأعمال وعرضها، ليعيد الميثاق توجيه بوصلتها لتكون أدوات بناء وتوعية، وحشد وتعبئة، واستعداد ذكي للمستقبل وتحدياته. أطالبهم بالكف عن مثل تلك الأعمال الفنية التاريخية حتى لو تتطلب الأمر توقيف بعض الأعمال التي شُرع فيها بالفعل، ولنتحاور بعقلانية ورشد مع إعلاء صوت المصلحة والنهضة والمستقبل.