إن «أنوار الشمال» (الشفق القطبي الشمالي) كان عنواناً لمعرض لوحات كبير في باريس قبل بضعة أعوام، وكان المعرض مخصصاً لروائع الفنون التشكيلية الإسكندنافية. ولكن «أنوار الشمال» قد تشير أيضاً إلى ما تحتاج إليه أوروبا، وربما الغرب كله، في الوقت الحاضر: نموذج سياسي اقتصادي اجتماعي أخلاقي. والواقع أن رئيس الوزراء فريدريك راينفيلدت، حين أصبح أول زعيم من يمين الوسط في السويد يعاد انتخابه في العصر الحديث، لم ينه هيمنة يسار الوسط على الانتخابات في بلده فحسب، بل لقد كشف أيضاً عن حقيقة مفادها أن النموذج الإسكندنافي للحكم صالح للتطبيق في مختلف أنحاء أوروبا.
وفي وقت حيث أصبحت الغلبة لأنصار خفض الميزانيات والحد من الإنفاق الحكومي، فإن السلطة السياسية في إسكندنافيا تتسم بالتواضع والنزاهة بشكل عام. وكان للنساء دور رئيسي في المجتمع والسياسة منذ زمن بعيد. والواقع أن الرأسمالية الإسكندنافية كانت تقليدياً أكثر إنسانية، وكان الظلم الاجتماعي هناك أقل تدميراً من نظيره في جنوب أوروبا على سبيل المثال. فضلاً عن ذلك فإن المهاجرين إلى البلدان الإسكندنافية يلقون عموماً معاملة تتسم بقدر أكبر من الاحترام لكرامتهم.
لا شك في أن العديد من الأوروبيين الآخرين يعترفون بهذه «الفضائل». ولكن ردود أفعالهم الطبيعية تكاد تقول: «هذا لا يصلح لنا». ويعتقد العديد من الناس أن ممارسة المرء للفضائل الإسكندنافية تستلزم أولاً أن يكون قادماً من بلد بارد الطقس حيث يعيش عدد ضئيل من السكان المتجانسين الذين يتقبلون الضرائب المرتفعة من دون تذمر.
ويزعم العديد من الأوروبيين من خارج إسكندنافيا أن المرء ليس من الممكن أن يتصرف على هذا النحو ما لم ينشأ على التعاليم الأخلاقية البروتستنتية. وبالنسبة لليونانيين والإيطاليين والعديد من الفرنسيين فإن التهرب من الضرائب يشكل نوعاً من التسلية الوطنية، بل إن البعض ينظرون إلى التهرب الضريبي باعتباره واجباً أخلاقيا. إن السياسية في واقع الأمر عبارة عن لعبة، والسلطة عبارة عن مخدر يسمح للمرء بالارتفاع فوق المواطنين العاديين. والإغراء المتمثل في اعتبار المرء لنفسه تجسيداً للدولة، وليس خادماً لها، كثيراً ما يشكل دافعاً لا يقاوم بين الساسة في جنوب أوروبا.
من الخطورة بمكان أن نمجد النموذج الإسكندنافي بطبيعة الحال. فالبلدان الإسكندنافية تعاني من نصيبها من المشاكل، مثل اليمين المتطرف القوي الكاره للأجانب في الدانمرك ونوبات التزمت الديني العَرَضية الإقليمية في النرويج.
بيد أن الفارق بين هذه الدول ونظيراتها في الجنوب، من حيث الأداء الاقتصادي والمناخ الاجتماعي والثقافة السياسية، واضح وضوح الشمس. والواقع أن بلدان أوروبا الضعيفة والمريضة -من اليونان إلى إسبانيا - موجودة في الجنوب وليس الشمال.
إن التحدي الآسيوي، وخاصة من قِبَل الصين، لابد وأن يشجعنا على إعادة النظر في مدى صلاحية «النموذج الإسكندنافي». فالنموذج الصيني يمثل بالنسبة للأوروبيين فرصة مزدوجة لإضفاء صبغة أخلاقية على نظامنا الرأسمالي وإعادة صياغة ممارساتنا الديمقراطية. ولا يجوز لنا أن نستمر في دعوة الآخرين إلى تبني القيم التي لم نعد نمارسها بأي قدر من الالتزام. ولكي نلعب دور أصحاب المكانة الأخلاقية السامية فلا بد وأن نستحق هذه المكانة.
ولا يجوز لنا فضلاً عن ذلك أن ننتظر ببساطة إلى أن ينهار الصيني «الآخر» تحت وطأة تناقضاته الذاتية. لا شك أن هذه التناقضات حقيقية، ولكن من غير المعقول أن يكون مصدر قوتنا الرئيسي مستمداً من نقاط ضعف ذلك «الآخر». والواقع أن النموذج الصيني - المستلهم في أيامنا هذه ليس من لينين بل من عقود من النجاح الاقتصادي المنضبط في سنغافورة - يلقي بظلال من الشك على الربط التقليدي (الذي بدأ منذ آدم سميث) بين الرأسمالية والديمقراطية.
ففي الصين تزدهر الرأسمالية من دون ديمقراطية. وهناك نكتة صينية معاصرة تشير بشكل واضح إلى الكيفية التي تنظر بها الدولة إلى دورها في عالم اليوم: «في عام 1949 أنقذت الشيوعية الصين؛ وفي عام 1979 أنقذت الرأسمالية الصين؛ وفي عام 2009 أنقذت الصين الرأسمالية».
في أعقاب هذه الأزمة المالية الاقتصادية كبرى -والتي قد لا تكون قريبة من نهايتها- يسألنا الصينيون والآسيويون عموماً وبلا مواربة كيف نجرؤ على محاولة تلقينهم دروساً في رأسمالية التمويل. هل نسينا أننا أثناء الأزمة المالية الآسيوية في عام 1998 لم نهرع لنجدتهم؛ ولكنهم بعد عشرة أعوام سارعوا إلى نجدتنا؟
إن الصين اليوم أصبحت على نحو متزايد تمثل بالنسبة لأوروبا ما كانت الولايات المتحدة تمثله بالنسبة لها بالأمس - فهي المرآة التي تعكس نقاط ضعفنا ومواطن قوتنا. ونحن أقل عدداً من أن نكون أي شيء آخر غير «بيئة للامتياز» في طبيعة رأسماليتنا وممارساتنا الديمقراطية، التي أصبحت في خطر بسبب سلوكياتنا.
ويبدو أن لا شيء يستحث الفشل أكثر من النجاح. فمنذ نهاية الحرب الباردة، فقدنا نحن الأوروبيون الحافز إلى إظهار تفوق أنظمتنا. لقد أصبحنا راضين عن أنفسنا واستسلمنا للكسل.
وفي هذا السياق يصبح التطلع إلى الشمال شرطاً أساسياً إن كنا راغبين في استعادة جاذبيتنا العالمية والدفاع عن الميزات النسبية «لديمقراطيتنا». هناك المزيد من الانضباط والانفتاح تحت أنوار الشمال، وهذه هي على وجه التحديد التركيبة التي نحتاج إليها، بما تشتمل عليه من المزج بين التواضع تجاه الآخرين والطموح نحو أنفسنا.
خاص بـ الجزيرة - باريس -مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة»*