عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز السليِّم

في قُرُونٍ خَلَتْ؛ أقامَ رجالُ الكنيسةِ نظامَ دولتِهم على أساسٍ من الدِّين المحرَّف، ومبادئ الرهبانية المبتدعة، فضاقتْ دولتُهم - بطبيعة الحال - عن استيعابِ طرائق الحكم، وخطط السياسة والإدارة والحضارة.

وفي تاريخ المسلمين؛ نجدُ عُصُوراً ذهبيَّة مختلفة، يظهر فيها جلياً؛ سموُّ شريعة الإسلام، وكمالُها ودوامُها، تلك الشريعة التي جمعتْ بين فروض التوحيد وواجبات الاستخلاف، وبين مراقي العبادة ودواعي العمارة، وبين حقوق الجماعة ومصالحها العامة، وحقوق الأفراد ومصالحها الخاصة.. شريعةٌ مُمْتَدَّةٌ في الزمان والمكان، برهنتْ نصوصُها المقدَّسة، ووقائعُ سيرةِ نبيِّها الكريم، وسياساتُ خلفائه الراشدين، وعباراتُ العلماء المصلحين؛ على استيعابها مبادئَ الحكم والسياسة، وأصولَ الاجتماع والتعايش الإنساني.

إلا أن هناك مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية اشتدَّتْ عنايةُ العلماء به، وكان ولا يزال – عند علماء الاجتماع السياسي خاصةً - من أهم الظواهر في الحياة الإنسانية، وأكثرها تعقيداً وضخامة، ألا وهي (الدولة) وبيان مكانتها في الحياة الاجتماعية، وتفسير أدوارها، وتحليل وظائفها، وبيان الواجبات المقسَّمة بين أفرادها... حتى كثُرتْ فيها تآليفُهم، وتعدَّدت حولها آراؤهم.. في نقاشٍ علمي متوارث، ومتراكم عبر الزمن، منذ عصور المدرسة اليونانية، وتنقُّلاً بين المدارس الفلسفية المختلفة عبر الحضارات، وانتهاءً بزمان الناس هذا.. وهذا النقاش الطويل له ما يُبَرِّرُه – بل ما يُوجِبُه أحياناً - عند علماء الاجتماع والسياسة والقانون وغيرهم من العنيِّين، ولسنا بصدد استدعائه هنا، ولكنْ لحاجتنا لبيان (مفهوم الدولة)، وبيان مرادنا منها في هذه المقالة؛ فإننا نقف عند نقطةٍ تكاد تكون محلَّ إجماعٍ في بيان حقيقتها وعناصرها.. فيكاد يجمعون على أن الدولةَ مجتمعٌ إنساني منظَّم يتكوَّن من ثلاثة عناصر؛ (الشعب) وهم مجموعةُ الأفرادِ الذين يعيشون بصفة دائمة في (إقليم) معيَّن، وتقوم على شؤونهم سلطةٌ سياسية منظَّمة؛ استقرَّ الناسُ على تسميتها ب(الحكومة). وحول هذه العناصر الثلاثة؛ تشعَّب البحثُ حول طبيعة العلاقة فيما بينها وضوابطها وصورها وأنواعها.

وهذه المقالة ليست إلا محاولة متواضعة لتسليط الضوء على مساحةٍ فكريةٍ معيَّنة تلتقي فيها – بشكلٍ ما – دوائرُ علومٍ مختلفة؛ لبحثِ جانبٍ من جوانب خُلُقٍ رفيع؛ له آثارُه ومَظَاهِرُه على العلاقة الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة بين الشعب والدولة بعناصرها الثلاثة مجتمعة.

وذلكم الخلق هو خُلُق (الغيرة).. الغيرة من الشعب على دولتهم ووطنهم وحكومتهم، وغيرتهم على أنفسهم.. ذلكم الخُلُق الذي يُعَدُّ أصلاً كبيراً من أصول الأخلاق، وفطرة طبيعية في النفس البشريَّة السويَّة، ونزعة إنسانية في تكوينها، وهي حين تكون غيرةً على الفضائل؛ فإنها تكون مَدْرَجَةً من مَدَارِجِ الفُتُوَّة التي يكون بها تمامُ الأخلاق واستواؤها.

ولا نعني بالغيرة هنا مجرَّدَ الأَنَفَة، أو الأنانيَّة، أو الحميَّة الجاهلية، بل نقصدُ إلى الغيرة العلويَّة الجماعيَّة، التي تُحْيِ الورع، وتُميتُ الطمع، وتنشر معاني السخاء، وتنفي معها معاني الشُّحِّ والأثرة.

الغيرة التي نريد؛ هي الغيرة التي تُبعث من مبادئ البلاد وقيمها؛ لتحمي النشء الجديد من الذَّوَبَان في طُوفَان العولمة والقوميَّات الجديدة. يجب أن تكون هذه الغيرة دماً يجري في العروق؛ ليُحْيي ما فَتَرَ من الأعمال، ويُوقِظَ الخاملَ من الآمال، ولتبقى المصالح العليا للأمة مقدَّسةً فوق الأطماع والأهواء.

إن نشرَ مثل هذه القضايا، والتأكيدَ عليها في أوساط (ناشئتنا) – عبر قنوات التربية والتأثير – تجعلهم أقدر على تفهُّمِ قضايا بلادهم، والغيرة عليها، والمحاماة عنها، ومن ثَمَّ تحمُّل مسؤوليَّاتهم الشرعية والوطنيَّة. كلُّ ذلك أملاً في الوصول إلى مجتمعٍ غيور؛ يتأمَّل الماضي، ويجتهد في الحاضر، ويبني للمستقبل.

جميلٌ أن تستذكرَ أمَّتُنا في أيامِها الوطنية، ومناسباتها المجيدة؛ ما يستحثُّها على (مزيدٍ) من المعاني الوطنية والأخلاق المجيدة.. يجب أن نتذكَّر دوماً أن بلادَنا لقيَتْ من العوارض والعوائق في سبيل هذا الخير الواصلِ إلينا؛ ما ذلَّلَتْهُ العزائمُ الجَسُورة، ومهَّدتْهُ النوايا الصَّادقة، وأنها بعْدُ سائرة في طريقها، متَّكلة على ربها، معتمدة على ولاء أبنائها، وإخلاصهم لها، والتفافهم حولها.. ذلكم كلُّه؛ هو ذخرها، ومادة نجاحها، وحاديها نحو بلوغ آمالها، وتحقيق أمانيها.

ومفهوم «الغيرة على الدولة» مفهومٌ ذو دلالات مُتَرَاحِبَة، ومعانٍ وافرة.. والمقصود الوقوف على أبرز مظاهر هذه الغيرة في حياتنا الاجتماعية، من خلال الإشارات المختصرة تحت العناوين التالية:

1- من مظاهر الغيرة على الدولة؛ الغيرة عليها من تفرُّقِ كلمتها، واختلاف جماعتها.

الاجتماعُ والتعاونُ والتَّآخي؛ هي أولُ عواملِ الإصلاح الاجتماعي، بل لا قِوَامَ لمجتمعٍ إلا بها. والمتأمِّل في وقائع السيرة النبوية يجد أن من أوائل أعمال التأسيس للدولة الإسلامية؛ مؤاخاة النبيِّ عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، وقِصَّةُ التَّآخي بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما مخرَّجةٌ في الصحيحين.

بل إنه صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يؤكِّد على أهميَّة الاجتماع والتعاون في الاجتماعات الصغيرة العارضة، كالسفر ونحوه؛ تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماعات التي هي أكبر وأدوم. فقد روى أبو داود وغيره أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً تفرَّقَ الناسُ في الشعاب والأودية، فقال: (إن تفرُّقَكم في هذه الشعاب والأودية؛ إنما ذلكم من الشيطان)، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضمَّ بعضُهم على بعض حتى يقال: لو بُسِط عليهم ثوبٌ لعمَّهم.

وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الاجتماعَ سبباً من أسباب حلول البركة على الفرد والجماعة، ففي الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله إنَّا نأكل ولا نشبع! فقال عليه الصلاة والسلام: (فلعلَّكم تأكلون متفرِّقين)، قالوا: نعم، فقال: (فاجْتَمِعُوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه «يُبَارَك» لكم فيه).

وحِفْظَاً لهذه الوشيجة الاجتماعية؛ قرَّرتْ السياسةُ النبويةُ منعَ كلِّ ما يعكِّرُ صفوَ هذه الجماعة، والتَّحْرِيجَ على كلِّ مَنْ ابتغى إلى ذلك سبيلاً؛ فأمَرَ بهدم مسجد الضِّرار، وقتْلِ مَنْ أراد تفريق الجماعة، وأَمَرَ عثمانُ رضي الله عنه بتحريق المصاحف... كلُّ ذلك وغيره صيانةً لجماعة المسلمين، وحراسةً لوحدتهم.

بل إنه عليه الصلاة والسلام جعل الاجتماعَ سبباً للوقاية من الشيطان، ووساوسِ الفتنة، وسبباً للقوة والإعانة والتوفيق، ومضاعفة الأجور.. في شواهد كثيرة؛ ليس هذا موضع تقصِّيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ونتيجةُ الجماعة؛ رحمةُ الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفُرْقَة؛ عذابُ الله ولعنتُه، وسوادُ الوجوه، وبراءةُ الرسول منهم )، وقال: (الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله).

وتأسيساً على ذلك؛ فإن الإسلامَ دينٌ وشريعةٌ واجتماع، جاء لخَلْقِ مجتمعٍ متضامن، وصُنْعِ (التحامٍ اجتماعي). يجب أن تعلمَ الأمةُ أن الأصلَ الذي بُنِيَ عليها دينُها هو الاجتماع والتعارف والتآخي والتناصر والمودة.. يجب أن يقوى (الشُّعورُ الجَمْعِي) في نفوس الأفراد بوصفهم أعضاء في الوطن الواحد.. يجب أن يطغى في وجدان الفردِ منَّا شعورُه بجمعيَّتِه؛ أكثر من شعوره بفرديَّته.. حينها؛ تتخلَّى تفاصيلُ الحياة عن معاني الشُّحِّ والضَّنِّ والأثرة، لتتحلَّى بمعاني السَّخاء والسَّماحة والجود، ولتبقى المصالح العليا للجماعة مُتغلِّبةً دوماً على المصالح الفرديَّة الخاصَّة.

2- من مظاهر الغيرة على الدولة؛ لزوم الأمانة، والحفاظ على المال العام للدولة، وصيانة مواردها.

الأمانة من (أقدس) الواجبات، وهي أمرُ اللهِ ودينُه، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... }، والنبيُّ الكريم لُقِّب بالأمين، وهو أول من غار على المال العام للدولة؛ ففي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام استعمل رجلاً على الصدقة، فلما جاءه حَاسَبَه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال له: (أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى إليك أم لا؟)، ثم قام عليه الصلاة والسلام عشيَّةً بعد الصلاة، فتشهَّد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد؛ فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدى إليه أم لا؟ فوالذي نفس محمدٍ بيده لا يَغُلُّ أحدكم منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحملُه على عنقه إن كان بعيراً جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر، اللهم هل بلغت). وفي الحديث: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة). وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش، وهو الوسيط الذي يمشي بينهما.

والصحابة الكرام تلقَّوا هذه الدروس النبوية ببصرٍ نابِهٍ فوَعَوْهَا، وتربوا عليها بذهنٍ نافذٍ فَجَرَتْ تلك الفضائلُ سُلُوكاً وفِعَالاً، فهذا ابن رواحة رضي الله عنه يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليخرص بينه وبين اليهود، فجمعوا حليَّاً من نسائهم، فقالوا: هذا لك وخَفِّفْ عنَّا. فقال: يا معشر يهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، والرشوة سُحْت. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

وإذا علمنا أن الأمانةَ الحاضر ةَ في نفس العامل والمسؤول سببٌ لجودة العمل وإتقانه والإبداع فيه؛ فإنَّ انعدامَها سببٌ لضدِّ ذلك من الفساد والفوضى وضياع الحقوق. ولذلك جاء في الأثر: (إذا دخلت الرشوة من الباب؛ خرجت الأمانة من الكُوَّة).

وقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً، وعلماء الإدارة وخبراء التنمية في العصر الحاضر؛ أن الفسادَ الإداري سببٌ لفساد الدنيا والدين، ورَفْعِ البركة والطمأنينةِ والرِّضا، وأنه سببٌ للتَّخَلُّفِ والنُّكوص، وظهورِ العوائق في التنمية والتحديث، وأنه دافعٌ لتخلُّفِ العامل والمسؤول عن إنجاز ما (تعاقدتْ) معه الدولةُ والجماعةُ على إنجازِه، وأجمعوا كذلك على أن التراخي أو التباطؤ في اجتثاث (نابتة الفساد) يفضي إلى جُهدٍ أكبر، ووقتٍ أطول لاجتثاثها، وبالتالي؛ مزيدٍ من الإجراءات الإدارية والرقابية.

وعليه؛ فإن عفةَ العامل وتعفُّفَ المسؤول هما رأسُ المال في الحساب التنموي والإداري للدولة. جاء في حديثٍ عند الترمذيِّ وحسَّنه: (عُرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة – وذكر منهم – عفيف متعفف). وقد قرَّرَ ابنُ تيميَّةَ وغيرُه أن العفيف المتعفف يثبِّتُه الله، ويحفظُه في أهله وماله.

3- من مظاهر الغيرة على الدولة؛ الحفاظ على أمنها.

أوَّلُ احتياجاتِنا الإنسانيَّة؛ هي الحاجة إلى استقرارٍ وسلامٍ اجتماعي، ولا يكون ذلك إلا بالأمن، الذي هو ضرورةٌ أصلية، وجوهرٌ للضرورات الخمس، وأساسٌ لفرضيَّات التنمية والإبداع والتخطيط الاجتماعي.

والحديث عن الأمن ذو شُعَبٍ وشُجُون.. كثُرتْ في التأكيد عليه نصوصُ الشريعة، وعباراتُ العلماء، ومؤلفاتُ الأدباء والمفكرين.. إلا أننا نكتفي – في هذا المقام – بعبارةٍ للإمام ابن كثير رحمه الله؛ عبارةٍ قصيرة؛ ذاتِ إشارات عميقة، وذلك في تفسيره لقول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }، قال رحمه الله: (والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خيرٌ جزيل، و»أَمِنَ الناس»، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلَّم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان).

4- واستكمالاً لما ذكرناه من مظاهر «الغيرة على الدولة»؛ فإن من مظاهرها ولوازمها؛ النصيحة والتواصي بالخير.

النصيحة مبدأ عظيم، مقررٌ في الشريعة الإسلامية، وهي (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامَّتهم).

وفي السنّة النبوية المطهَّرة أدلةٌ على أن النصيحة الصادقة سببٌ لحلول البركة، ومضاعفة الأجور، ودخول الجنة، وأنها من علامات الفقه والأمانة.

وهي أيضاً سببٌ للسَّدَاد والتوفيق. جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لا يزال الرجل يزداد في صِحَّةِ رأيه؛ ما نَصَحَ لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نُصْحَه ورأيه).

ويخطئ حين يظنُّ العامل أو المسؤول أن الاستشارةَ وطلبَ النصيحة ضعفٌ وقلةُ حزمٍ وسوءُ تدبير؛ فإن الحقيقةَ في ضدِّ ذلك، ولهذا قيل: (المستشير أحزم من المستبد).

ولهذا؛ فإن (النِّظامَ الشُّورِي) في الإسلام، وترجمتَه في (مجالس الشورى) في تاريخ المسلمين القديم والحديث – وأخيراً في المملكة العربية السعودية –؛ خيرُ مثالٍ على التجسيد الحضاري لهذه المُثُل الحضارية، ولهذا المبدأ المهم بين أركان الدولة الإسلامية الحديثة.

وبُعْدٌ آخر مُهِمٌّ في هذه القضية؛ وهو أن النصيحة لا تكون مظهراً من مظاهر الغيرة؛ حتى يبدأ الفردُ منا بالنصيحة لنفسه. حينها؛ تنتفي إشكالاتٌ كثيرة، وتسود كثيرٌ من مظاهر الخير مِمَّا نحن بصدده، قال الآجُرِّي رحمه الله: (لا يكون ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ إلا من بدأ النصيحة لنفسه).

ويُخْطِئُ مَنْ يَظنُّ أن النصيحةَ محصورةٌ في صورٍ محددة.. بل هي شاملةٌ لمعاني الإحسان والرحمة وبذل المعروف بكل صنوفه، قال المُزني رحمه الله: (ما فاق أبوبكر أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه، كان في قلبه الحب لله، والنصيحة لخلقه).

5- من لوازم الغيرة على الدولة ومظاهرها؛ القيام بواجب الاستخلاف، وعمارة الأرض، والشعور بالمسؤولية.

للأفراد حاجاتٌ مشتركة؛ لا يمكن إشباعها إلا بالحياة الاجتماعية و(التضامن) الاجتماعي، والذي يُوجِدُ في نفوسهم دافعاً إلى الاشتراك في البناء، والتعاون في العمارة، وتكميل المصالح والحاجات، كُلٌّ من دوره ومركزه الاجتماعي.. كما قال سبحانه: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى?، ومن حكمتِه سبحانه؛ بثُّ الخصائصِ والمزايا في الناس ليتم التعاون، قال ابن تيمية: (حقوقُ الرعيَّةِ لزومُ جماعتِهم، فإنَّ مصلحتَهم لا تتمُّ إلا باجتماعهم).. يجب أن تسودَ على الجميع روحُ التعاون، والتفاؤل، والإيجابية بكلِّ معانيها. (الإيجابية) التي تنقل الفردَ من كونه كَلاً على مجتمعه أينما يوجِّه لا يأتي بخير؛ إلى كونه مباركاً أينما كان، عطوفاً، كَسُوبَاً، نَزُوعاً إلى الفضائل، عارفاً بالحياة، سبَّاقاً في ميادينها. يجب أن يكون الضمير الحي اليقظ باعثاً للحماسة، والشعور بالمسؤولية، والقيام بواجبات الاستخلاف من بناء الحياة وعمارة الأرض.. قال تعالى: ?هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا? قال السَّعديُّ رحمه الله: (أي مكَّنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها)، وقال بعض أهلُ العلم: (استعمركم: أي طلب العمارة منكم، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب).

والنبيُّ الكريم كانت له في كل ذلك الأدوارُ العظمى، والمسؤوليَّاتُ الشريفة، فقام عليه الصلاة والسلام برعي الغنم، وعمل في التجارة، وقام بعبادة ربه، وأقام دولة الإسلام، وبنى المسجد، وحفر الخندق، وعلَّم ووجَّه وربَّى. وقال: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده)، وقال: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، وحثَّ على السقاية والعمل والزواج وبناء الأسر، وبيَّن أحكام النظام الاجتماعي والاقتصادي والقضائي والسياسي، وأمر بالاستزادة من العلوم، وجعلَ القُوَّةَ في أداء هذه الأعمال، وإتقانَها والإحسانَ فيها؛ أسباباً لمحبة الله.

وللعلماء في هذا المجال عباراتٌ كثيرة في الحثِّ على تعلُّم العلوم، والسعي في الأرض بما أوجب الله.. فمن ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله: (لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب)، وكان يتلهَّف على ما ضيَّع المسلمون من الطب، ويقول: (ضيَّعوا «ثلثَ العلم»، ووكلوه إلى أهل الكتاب).

ومعلومٌ أن القيامَ بواجب الاستخلاف، وعمارة الأرض بما أوجب الله؛ تُوجِب انتشار العلوم، ومزيداً من آداب الحضارة؛ كالإحسان والإتقان والإجادة في المهن والأعمال والسلوك. يقول ابن خلدون رحمه الله في مقدمته: (إذا زخر بحرُ العمران، وطُلِبتْ فيه الكمالات؛ كان من جملتها التَّأنُّق في الصنائع واستجادتها، فكمُلتْ بجميع متمِّماتها، وتزايدتْ صنائع أخرى.. مثل الورَّاقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها؛ فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها التَّرف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية، وأمثال ذلك).

وفي ذات السياق؛ يرشدنا الله عز وجل إلى سرٍّ من أسرار الدَّيْمُومَةِ الحضارية، وتَصَعُّدِها وترقِّيها، وذلك في قوله سبحانه: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ?، وقوله: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ... ?، وقوله: ?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ...?

6- من مظاهر الغيرة على الدولة؛ الرفق برعاياها، والتَّراحُمُ فيما بينهم.

وهذا المظهر بمكانِ التَّاجِ من بين المظاهر، ووُجُودُه سببٌ لوجود ما سواه منها، ولا يَصِلُ إليه إلا الخُلَّص مِمَّنْ صَدُقتْ لله نواياهم، وسلمت للناس طواياهم، واستكملوا في خَليقتِهم أدوات الفضائل واللياقة النفسيَّة.

وحين تتنزَّلُ الرحمة في القلوب، وتتمثَّلُها النفوسُ سلوكاً وأعمالاً؛ فإنها تكونُ جديرةً برحمة الله، وإرادتِه الخيرَ لهم. كما في الحديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، وحديث: (إذا أراد الله بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق).

وحين تُنزَعُ الرحمةُ من مجتمع، ويستبدل أهلُه مظاهرَ الجفاء بمظاهرِ البر؛ فقد حُكم عليهم بالشقاء، وفي الحديث: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).

الرحمةُ التي نعنيها؛ هي (رحمةُ العالمين) التي تُخرجُ الإنسان من دائرته الضيِّقَة؛ لتنقلَه إلى الأفق الأرحب في بُعْدِ الزمان والمكان. كما في الحديث: (لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله! قال: إنه ليس برحمةِ أحدكم صاحبَه؛ ولكنها رحمة العامة). وقال عليه الصلاة والسلام: (وأحِبَّ للناس ما تُحِبُّ لنفسك تكن مؤمناً).

الرحمةُ التي نَقْصِدُ إليها؛ هي (الرحمة الاجتماعية) التي تنشر مبادئ التكافل والمواساة.. وتأمَّلْ حفاوةَ النبيِّ الكريم بهذا المعنى العظيم في الحديث المتفق عليه أنه قال: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو – أي فني طعامُهم – أو قلَّ طعامُ عيالِهم في المدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسويَّة، فهم مني وأنا منهم).

وتبلغ الرحمةُ أسمى معانيها حين ترتفعُ بالأمة عن تعدُّدِ المصالح، واختلاف المقاصد؛ لتنقلَهم إلى المصير المشترك، والهدف الواحد، كما في الحديث: (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد..).

ومن أجمل صور الرحمة؛ ما نسمعُه ونقرؤه في أوساطنا الاجتماعية من (التَّنَادي الغيور) لإحياء معاني (التطوع الاجتماعي).. التطوع الاجتماعي الذي يخدم الجمعيَّات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والفئات المحتاجة في مجتمعنا المبارك.

جميلٌ أن نرى من ناشئتنا وشبابنا – بلْ من تُجَّارِنا وأرباب الأعمال والمهنيِّين من الأطباء والمحامين وغيرهم وعموم القطاع الخاص – مبادراتٍ كريمة لاقتطاع أجزاء يسيرة من أوقاتهم لتقديم المعونات المعنوية – أو المادية – للمحتاجين من أبناء وطنهم الذي يَغْذُوهُم.

إذا تمثَّل المجتمعُ هذه القيم سُلُوكاً وأعمالاً؛ فهو جديرٌ ببشارةِ أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها للنبيِّ الكريم حين قالت: (والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..).

والصحابةُ الكرام، والتَّابعون والمصلحون من بعدهم؛ تمثَّلُوا هذا الخُلُقَ النبيل.. فهذا الإمام الشافعي رحمه الله كان كثيرَ الإنفاق، قال عنه أبو ثور: (قلَّ ما كان يُمْسِكُ الشَّافعيُّ شيئاً من سماحته)، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ يقول عنه تلميذُه ابنُ القيِّم: (كان شيخُ الإسلام يسعى سعياً شديداً في قضاء حوائج المسلمين). وقد تقرَّر في الشريعة أنَّ من سُنَنِ الله عز وجل أنه يُعْفى للمؤمن صاحب الإحسان ما لا يُعْفى لغيره، ويُسَامَحُ بما لا يُسَامَحُ به غيرُه.. و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }؟

وإذا كانت الرحمة عطفاً وبراً وإحساناً؛ فهي (ليستْ حناناً لا عقلَ معه، أو رقةً تتنكَّرُ للعدل والحق والنظام).. بل إنَّ في العقوبات الشرعية، والتقديرات التعزيريَّة، وإجراءات التأديب والتقويم والتهذيب؛ ما يُمَثِّلُ الرحمةَ في حقيقتها ومآلاتها.

7-من مظاهر الغيرة على الدولة ولوازمها؛ الالتزام بالنظام العام، وأنظمة الدولة، واحترامها.

سيادةُ النظام؛ أوَّلُ واجبٍ صاحبَ نُشوءَ الدُّوَل.. وكلما سعتْ الدولةُ إلى «تكريس» سلطة النظام فيها، وتأكيد سيادته على الجميع – بحيث تكون سلطتُه سلطةً آمرة عليا لا تخضع إلا لمبادئ الدولة ودستورها – فإنها بذلك تُثْرِي قُوَّتَها وسيادتَها، وتزيد من فُرَصِ التحديث والتطوير والتنمية.. في مجال التعليم والاقتصاد والخدمات العامة.. الذي ينطبعُ بدورِه على السُّلُوكِ الاجتماعي العام للمجموع والأفراد.

وسيادةُ النظام تجعلُ من الدولة (المكان الأمثل) – وقد يكونُ الوحيد – لتطوُّرِ الإنسان وترقِّيه وتَحَضُّرِه.

وفي دولتنا المباركة وكيانَنا المبارك (المملكة العربية السعودية)؛ نصوصٌ دستوريةٌ مباركة، ومتونٌ من المبادئ والنُّظُم، ومؤلَّفاتٌ مُحَبَّراتٌ من المواد واللوائح للتنظيم والتنفيذ؛ تقرِّرُ ما ذُكر من وجوبِ سيادةِ النظام، واحترامه، وسريانه على الجميع. وكثيراً ما يرى المتابعون للأوامر الملكية السامية ما يؤكِّد على هذه المعاني الكريمة في التعميم والشمول.

كلُّ ذلك؛ إعمالاً (لقواعد الشريعة)، وامتثالاً (لنصوصها) وآدابها في وجوب المحافظة على الاستقرار والضبط الاجتماعي. وفي جَمْعِ هذه (النصوص) وشَرْحِها والتَّعليقِ عليها؛ أُلِّفتْ مُصَنَّفاتٌ كثيرة، ومُدوَّناتٌ مشهورة؛ نكتفي بالإحالةِ عليها؛ اختصاراً.

إلا أن هناك موقفاً لبعض أهل العلم ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في سيره، وبه يتبيَّنُ أثر الوازع الديني، والمراقبة الذاتية في الحفاظ على شعائر الإسلام؛ مِن الطاعةِ في المعروف، والحفظ، والامتثال لما فيه المصلحة العامة والخاصة.. قال رحمه الله: (جاء رجلٌ لأبي وهب (زاهد الأندلس) فقال: قم بنا لزيارة فلان، فقال: وأين العلم؟ وليُّ الأمر له طاعة، وقد منع من المشي ليلاً!).

والامتثالُ لوليِّ الأمر في المعروف، و(إنفاذُ) الأوامر والأنظمة المقرَّرة منه أو مَنْ يُنيبه؛ موعودٌ عليه بالأجر والجزاء الكريم؛ كما في الحديث: (إن الخازن المسلم الأمين الذي «يُنْفِذُ ما أُمرَ به» فيعطيه كاملاً موفَّراً، طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به؛ أحد المتصدِّقين).

ولِعِظَمِ هذا الأمر وأثره في الحياة الاجتماعية للدولة المسلمة؛ فقد اشتدَّتْ غَيْرةُ الله عليه؛ فأمر سبحانه بتضعيف العذاب على من سعى بالفساد؛ كما في قوله سبحانه: ?إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ....? (الآية). قال سعيد بن المسيب رحمه الله: (قَطْعُ الذهب والفضة – أي اِنْقَاصُ وزن العملة النقدية التي سَكَّها ولاةُ الأمور – من الفساد في الأرض).

وعليه؛ فإن أهل العلم يُجمعون على وجوب الامتثال، والطاعة في المعروف للأنظمة والتراتيب الإدارية؛ تأسيساً على قواعد الشريعة في باب «المصالح المرسلة»، و»ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».. ويُقَابِلُ هذا الإجماع عند علماء الشريعة؛ إجماعٌ مثلُه عند علماء الاجتماع والسياسة، حتى إن أحدَ علماء الاجتماع السياسي يرى أن (امتثالَ الفرد) لسُلْطان (النظام) هو ما يجعلُ منه (مواطناً).

ومن لوازم الغيرة على قوانين الدولة وأنظمتها؛ السَّعيُ مع مؤسسات الدولة في تطوير الأنظمة، ومشاركتها في ذلك، والتَّرقِّي معها في آمالها وطموحاتها، ونَشْرِ هذه الثقافة في الوسط الاجتماعي... فكما أن (التطوُّرَ) في أيِّ مجتمعٍ يجب أن يكون شاملاً لجميعِ طبقاته واتجاهاته؛ فكذلك أي تطورٍ يطرأ على أحد أنطمة المجتمع (الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية..)؛ يجب أنْ تُواكِبَهُ أنظمتُه الأخرى؛ لأنَّ تأخُّرَ نظامٍ أو طبقةٍ عن اللحاق بالركب؛ سببٌ رئيس للخلل والتنافر.

وما يُقال في التطوُّر يُقال أيضاً في التخلُّف؛ فإن تخلُّفَ أيِّ طبقة، ونزولَها عن مستوى الجماعة في سُلُوكها ومفاهيمها؛ سببٌ للقلق وعدم التجانس، ولهذه المعاني أشارتْ نصوصٌ نبويةٌ شريفة: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً)، وأنهم (كالجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وأنهم ك(قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على من فوقهم, فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا ولم نؤذ مَنْ فوقنا, فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، وتأمَّلْ (سرَّ المعنى) في هذا التعبير النبوي الشريف: (هلكوا وهلكوا جميعاً)، و(نجوا ونجوا جميعاً)!

إنَّ هذه المظاهر – وغيرَها مِمَّا لم يتَّسِعْ لها المقام –؛ إنما هي في حقيقتِها (كواشف) لطبائع النفوس، التي لا يُمكن أن تَظْهَرَ آثارُها إلا بِفعْلِ (الاجتماع الإنساني)؛ إذْ لو كُتِبَ لفردٍ أن يكون في مَعْزلٍ عن الآخرينَ من بني جِنْسِه؛ لَمَا تبيَّنَ من نفسِه خيراً ولا شراً.. ولكنَّ الحياةَ الاجتماعية، وطبيعةِ آثارِها، وضرورةِ ما تقتضيه من دواعي الخلاف، وأسباب الخصومة؛ «قد» تُظْهِرُ ما يعتلج في النفوس من نوازع الشُّحِّ والأثرة.. وهنا؛ يأتي دورُ الوازع، وداعي العقل والفطرة، في ضمير الإنسان ووجدانه، وكوامن روحِه؛ ليدعوه لمجاهدة نفسِه، وأطْرِها على الأخلاق الحميدة، والمصابرة عليها.. وهذا الملحظ الاجتماعي الدقيق؛ لم تغفلْ عنه نصوصُ الشريعة! جاء في الحديث النبوي الشريف: (المؤمن الذي «يخالط» الناس ويصبر على «أذاهم»؛ خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم).

والحقُّ؛ أنَّ الحديثَ عن مظاهر (الغيرة على الدولة)؛ حديثٌ ذو مُتعلَّقاتٍ وذُيولٍ وشُعَب.. أَوردْتُ في هذا المقام فواتحَ من (كتاب)؛ لعلَّ فيها من التَّذكير ما يُغني عن التطويل والتفصيل.

وأخيراً.. فإن هذا المفهوم: (الغيرة على الدولة) لا يُلْغي وحدةَ (الأمة الكبرى)، وتضامنَها الواعي، ومصيرَها المشترك.. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.

ونحمد الله سبحانه؛ أنْ جعل (دولتَنا) المباركة – حكومة وشعباً – (المملكة العربية السعودية)؛ سائرةً بتوفيقه في دروب الكمالات، ساعيةً بتأييده في تحصيل المصالح.. يحدُوها طموحُ شعبِها، وتكاتُفُهم وتعاونُهم.. ويحدوها كذلك؛ همَّةُ قيادتها، و(غَيْرَةُ) قائدِها، الذي أشْهَدَ شعبَه وأمتَه (مظاهرَ من غيرتِه على دولتِه).. فقد شهدْنا جميعاً في شهر (الخير) المنصرم؛ مواقفَ غيورة، وألفاظاً ملكيةٍ طموحة؛ سَبَقَ بها كعادته حفظه الله؛ طموحاتِ شعبه؛ فقد أصدر أمره الملكي الكريم بتنظيم الفتوى؛ غيرةً على الشريعة، وحَمَلَتِها، ثم شهدنا (إحسانَ الدولة) في إغاثةِ الأشقَّاء المنكوبين في باكستان، ثم تدشينه المبارك لمشروع السقاية لماء زمزم في منطقة كدي في مكة المكرمة، ثم أمره الكريم بإنشاء مؤسسةٍ عالمية للأعمال الخيرية والإنسانية تحملُ اسمَه الكريم..