كان من المعتاد أن يدخل الرجل لبستانه ويأمر أحد العمال بإحضار بعض الفواكه من أشجار المزرعة. وحين قابله أحد الحراس أمره باختيار حبة رمان تكون قد نضجت وطاب طعمها.
لم يغب الحارس بعيدا ورجع ومعه رمانة كبيرة الحجم، وما أن فتحها السيد وتذوق طعمها حتى اكفهر وجهه، ونهر الحارس وتمتم بكلمات قاسية آمرا إياه أن يحضر له حبة حلوة الطعم!
هرول الحارس وعاد ومعه رمانة أخرى، وما أن تذوقها الرجل حتى وجد طعمها حامضا أيضا! فراح يكيل للحارس السب وينعته بالغباء. ارتبك الحارس وانطلق نحو الأشجار محتارا كيف يختار المطلوب من أشكال الرمان ويحضرها لسيده؟! فكان كل ما أحضره ذا شكل متباين وطعم حامض. حتى أسقط في يد الحارس المسكين فأطرق رأسه متأسفا مبينا لسيده جهله بعدم معرفته لطعم الرمان المطلوب.
عندئذ سأله صاحب البستان مستعجبا: مضت سنة كاملة وأنت تحرس هذا البستان. ألا تعرف شكل الرمان الناضج؟ وكانت إجابة حارس البستان مدهشة ومفاجئة بما تحمله من نقاء وصدق: إنك يا سيدي طلبت مني أن أحرس البستان، لا أن أتذوق الرمان. فكيف لي أن أعرف شكل الرمان الحلو فأقطفه لك؟!
عجب صاحب البستان من أمانة هذا الرجل وصدقه، ونقاوة معدنه وسمو أخلاقه، فعرض عليه بحماس تزويجه إحدى بناته! وبرغم دهشة الحارس إلا أنه لم يتردد بالقبول. فتزوج من ابنة صاحب البستان، وكانت فتاة صالحة تشاركه الأمانة وكمال الخلق، وأثمر الزواج عن إنجاب الإمام عبد الله بن المبارك.
أما التركيبة البشرية الأخرى فكانت لشاب يسير بجانب بستان، فوجد تفاحة ملقاة على الأرض، فأخذها وأكلها، ثم حدثته نفسه بأنه اعتدى على شيء ليس من حقه، فصار يلوم نفسه، حتى قرر إبلاغ صاحب البستان عما جرى منه في أمر التفاحة ويكون في خيار بمسامحته عنها أو دفع ثمنها له.
ذهب الشاب وحدث صاحب البستان بالأمر، فاندهش لشفافية الشاب وأمانته وصدقه. وسأله عن اسمه فأبلغه أن اسمه ثابت.
عندئذ أطلق الرجل قراره بأنه لن يسامحه إلا بشرط أن يقبل الزواج بابنته المعاقة، حيث إنها خرساء عمياء صماء مشلولة. وكان الخيار أمام ثابت مطروحا. إما الزواج أو عدم المسامحة.
وتصوروا لو أن الوضع حصل في عصرنا الحالي لقال الشاب: لا تسامحني ولن أتزوج ابنتك، هذا جزائي بالاعتراف؟ يا ليتني أكلت التفاحة ومضيت! بينما ثابت وجد نفسه مضطرا، فصار يوازي بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مع الزوجة المعاقة بإعاقات مركّبة. لذا كان قراره الأخير هو الموافقة على الزواج وقبول الصفقة غير المتكافئة. وحين حانت لحظة الزواج واللقاء بالزوجة المصيبة تفاجأ أنها سليمة من الإعاقات، بل إنها في منتهى الجمال والعلم والتقى.
فاستغرب كثيرا من تصرف والدها وبادرها بالسؤال عن السبب. فأجابت عن سؤاله بصدق مقولة والدها أنها عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما يغضب الله، ومشلولة عن السير في طريق الحرام. وكان ثمرة هذا الزواج: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت.
أما الثمرة الثالثة فكانت لشجرة طيبة في أرض سبخة إبان عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان يحذر رعيته من الغش، إلا أن إحدى السيدات كانت تحث ابنتها على مزج الماء باللبن لتتضاعف كميته، فتكسب أكثر، فعمر لا يراها، ولكن الفتاة لا تستجيب لأن رب عمر يراها. ووقعت تلك العبارة في مسمع عمر حين كان يتفقد رعيته ويتجول بين بيوت المسلمين، فسمع حوار الأمانة والنزاهة والغش والخيانة، وتاقت نفسه لضم هذه الأمانة إلى منزله. فزوج الفتاة من ابنه عاصم فأنجبت له ليلى، فكانت هي أم عمر بن عبد العزيز الخليفة الأمين النزيه.
هذه النماذج من التركيبات الفريدة جمعتها الأمانة برغم فارق الزمن، ولو رسخت الأمانة في النفوس لاطمأن الناس وسادت العدالة.
www.rogaia.net