الزمن الساعة العاشرة مساءً، والمكان «تحت الأرض» وعلى وجه الخصوص محطة إكسفورد في الأندر قراوند اللندني، أما الحال فجميع من في المكان في لحظة انتظار وترقب لقدوم القطار «المترو»، البعض أخذ يلعب بجواله، أو يستمع وربما يرى من خلاله إلى ما يحب، وهناك من يقرأ في كتيب بيده، والثالث في صمت مطبق يلتفت ذات واليمين وذات الشمال وهو يحاول أن يركز السمع لعله يسمع صوت العربة وقد أقبلت، والقليل من يقلب ناظريه في الناس يحاول أن يتوغل في ذواتهم ويسبر أغوارهم، ونحن مجموعة من الشباب السعوديين إن صح نعتنا بهذا الوصف الجميل نعلق على ما نرى ونمزح مع بعضنا البعض، وفي وسط الزحام وعلى مقربة من الرصيف كان هناك شاب يقبل فتاة في ريعان الصبا «تبدو أنها هندية أو باكستانية» ويتقرب منها في صورة قد تعود الغرب عليها في مثل هذه اللحظات التي ينتظرون فيها شيئاً ما، ولكنها في قاموسنا نحن الشرقيين صورة غربية جداً وغير مستساغة لا عقلاً ولا فطرة ولا شرعا.
ومن بين الجموع تأتي امرأة إفريقية محدودبة الظهر من كر الجديدين الليل والنهار، وربما جاوز عمرها 65 عاما، جاءت لتقف وبكل ثقة في مقابل الفتاة المحجبة وتنكر عليها هذا الصنيع بل تعاتبها بشدة وهي تحرك يديها وتركز ناظريها عليها لتخترق سياج قلبها مذكرة لها بربها الذي لا يرضى هذا الفعل من عباده، وما هي إلا دقائق حتى تغيرت الصورة.
عادت هذه المرأة التي أدت ما عليها نحو ربها، وقامت بما أملاه عليها دينها «الإسلام» إلى مكانها في انتظار القطار، مرت بنا ولمحتنا بنظرتها لمحة خاطفة ولكنها معبرة، وكأنها تقول: أين أنتم؟ التفت إليها أحد الزملاء وسألها بعد أن ألقى عليها السلام عن الحكاية ومن هذه الفتاة، وهل تعرفها من قبل؟، فقالت بحماس وانفعال: إنها فتاة مسلمة والدليل حجابها فهي متسترة، ومع ذلك تفعل هذا الشيء وفي مرأى من الناس!!، نحن في بريطانيا لا نقبل هذا من مسلمة حتى وإن كنا في بلاد الغرب، بل إن الغرب ينتقدنا حين يرى مثل هذه الصور، لقد قلت لها كيف تفعلين هذا وأنتي محجبة، وستستقبلين شهر رمضان بعد أيام، ماذا ستقولين لربك، وكيف ستربين أولادك بعد ذلك؟.
قلت حينها في نفسي.. لقد وجد الهدهد له دور في مملكة سليمان أعظم مملكة في التاريخ فقال مخاطباً الملك: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} واستطاعت نملة «نكرة في سياق العموم» أن تقي وادي النمل الهلكة والموت المحقق بعد أن حملت هم التبليغ والإنذار {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }، وهذه المرأة المسنة وفي بلد الحرية المطلقة، استطاعت بعلو همتها وشعورها بواجبها نحو مسلمة مثلها لا تعرفها من قبل أن تذكرها بحالها وقد ارتدت الحجاب وسوف تستقبل شهراً فضيلاً حقه أن يستقبل بالطاعة والتهليل والتكبير.
فهل تعجز أنت عن القيام بما هو أهون من ذلك بكثير؟ إن كلا منا لديه مساحة شاسعة وأفق رحب وواسع لأن يذكر ويعرف ويربي على منهج الإسلام الصحيح.
لقد أكبرنا نحن الخمسة الذين كنا معاً في هذا الموقف العارض همة وعزيمة وقدرة هذه العجوز، وراح كل واحد منا يقرأ الحدث من زاوية مختلفة وحسب رؤيته الشخصية وكانت محصلة التفكير أننا جميعاً قد نقصر في أداء ما هو أسهل من ذلك سواء في حق أهل بيتنا أو جارنا أو أحد أقاربنا أو حتى طلابنا فلا نكترث بهذه الشعيرة الإسلامية الهامة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، «التواصي بالحق والتواصي بالصبر» بل هناك من يتعجب من وجود مثل هذا الأمر في حياتنا المجتمعية ويظن أن سلوكاً مثل هذا يتعارض وحرياتنا الشخصية وحقوقنا الإنسانية التي ننشدها وحولها يدندن البعض منا سواء في كتاباتهم الصحفية أو لقاءاتهم الفكرية.
إن القيام بهذا الدور على وجهه الصحيح وبوعي وإدراك وحسن خلق وأدب في الحوار والإنكار أمر واجب وبه نقي سفينة المجتمع من الغرق وهو يختلف عن القيام بمهمة الدعوة إلى الله ولا علاقة له بالفتوى التي تتطلب مهارات وقدرات وتستلزم الإلمام بكثير من العلوم والمعارف، ويهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأساس إلى جعل الصبغة العامة في المجتمع والصورة الواضحة في المرافق والشوارع والمنتديات صبغة إسلامية صرفة وهذا ما يتطلع له ويتمناه كل مسلم غيور.
وإلى لقاء والسلام.