من أكثر المشاهد التي تثيرني في حمى انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية ماتنتهي به كل دورة حيث يقدم المنافس المهزوم التهنئة للمنتصر بعد إعلان خسارته مباشرة
في صورة تحمل كل قيم التسامح ومصلحة الأمة العظمى، وكان آخرها اعتراف ماكين المرشح الديمقراطي لأوباما بقوله إن الشعب الأمريكي قال كلمته، وهذا دليل واضح على المفاهيم الحضارية المتنورة في شعور المواطن بضرورة التضامن بين أفراد المجتمع ومؤسساته في إطار وحدة الوطن، ضمن منظومة من القيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية التي ينظمها العرف الاجتماعي والقانون العام للمجتمع... إن الاعتراف بالهزيمة يدل على فهم الإنسان لطبيعة الحياة بكل جوانبها، ويؤكد منهجية المجتمع وتمدنه في احترام العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة وهو بلا شك أكبر من اليافطات الانتخابية ومخيمات الترشيح ودوائر الانتخاب، وأرقى من توزيع الولاءات إلى القبيلة أو الطائفة أو الإقليم لأن المصلحة للوطن وحده دون النظر إلى تلك المصالح الموزعة بعصبية وإقصائية..
صدقا لا أدري لماذا ثقافتنا العربية لا تقبل الخسارة على أي مستوى، ولاتؤمن بالهزيمة والمنافسة، ولا أدل على ذلك قول شاعرنا القديم «لنا الصدر دون العالمين أو القبر» «ونجهل فوق جهل الجاهلينا»وكرس هذا المفهوم السايكولوجي الذي ينقض مبادئ التسامح والتعايش منذ غرسه في ذهن الصغار بعدم قبول الهزيمة لو كان بالكعاب حتى تطور هذا في عقلية العربي بعدم قبول الخلاف والحوار في أي قضية من القضايا، وأصبح الضجيج في المجالس والمنتديات والمؤتمرات ظاهرة صوتية تؤكد مقولة عبد الله القصيمي عن العرب ذات يوم أنهم ظاهرة صوتية، فلم نجد قبيلة أو إقليما يحكي تراثه بموضوعية بسلبياته وإيجابياته، ولم نقف على خطأ من تلك الشخصيات التاريخية وكأنهم ملائكة تمشي على الأرض في صورة تتنافى مع طبيعة البشر التي لم يسلم منها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وكلهم في الصدر، وكأنهم وحدهم في مسرح الأحداث وليس لهم طرف مقابل مهزوم ولا أعرف أي نظرية من نظريات التربية الحديثة يمكن أن تقضي على الهوس والهمجية في سلوك الطلاب (عماد المستقبل) فضلا عن تعديل مسارها إلى قبول الآخر والاعتراف بالهزيمة وهم يرون تراشق فرقهم الرياضية بعد كل مباراة وتطاول شخصياتها الرياضية على بعضهم وربما تطور العداء إلى التشابك بالأيدي أمام شاشات التلفزة، ولاأدرك ايضا أي قيمة في احتمال أن تقع حرب بين دولتين شقيقتين بسبب هزيمة في مباراة كرة قدم، وربما كانت رحمة الله للشعبين عدم اشتراكهما في الحدود...
والمتأمل في هذه الظاهرة يجد أن كل مهزوم يلقي باللائمة على الآخرين دون الاعتراف بتقصير ذاته، جهلا بالفرق بين الاعتراف بالهزيمة والاستسلام الذي خير مايمثله الحالتان السياسيتان في اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان اعترافهما سببا للتقدم العلمي والاقتصادي والاستقرار السياسي في صورة تتناقض مع إصرار العراق على عهد صدام حسين على الانتصار في أم المعارك والمدفع العملاق والتحدي غير المتكافئ حتى انتهى الأمر بمسح حزبه وخارطته وحياته من الحياة...
مؤلم أن ترى الديمقراطيات العربية المحيطة بنا تتشابك على هذا الشكل وهذه الطريقة المخيفة التي كانت عائقا من معوقات التنمية في بلادها وسببا لإثارة الطائفية والحزبية والعنصرية ولا يجد البرلماني العربي حرجا في المجالس القروية والنقابات والأحزاب وحتى النوادي الرياضية والجمعيات الخيرية والمجالس العلمية والمناقشات الأكاديمية من استعمال اللسان البذيء للتعبير عن وجهة نظره والتلويح بالقبضة في الدفاع عن رؤيته وقراره وأفرزت هذه الثقافة الإقصائية شعورا بالخوف وعدم الثقة في البحث عن المصلحة وتطاول الإقصاء بين الحاكم والمحكوم بسبب ذلك الشعور حتى لم يسلم خلفاؤنا الراشدون وغير الراشدين على مر التاريخ الإسلامي من الاغتيالات السياسية وأعواد المشانق وأحيانا السحل في الشوارع، كان الدرس الأمريكي أخلاقيا ينافي كل قوانين الطوارئ التي تميزت بها الساحة العربية على مدى عقود وركيزة للاستقرار السياسي والتطور الحضاري وهما الهدف الأسمى لأي أمة من الأمم...
إن واقعنا المخيف في إفهام النشء والشباب في أي منظومة قبلية أو طائفية أو إقليمية أو رياضية أننا الأفضل والأقوى يثبت أننا مازلنا في جلباب والعقلية الفطرية رغم كل محاولات التنوير والتمدن عبر القرون السالفة ولانختلف في القرن الحادي والعشرين عن عقلية الشاعر الجاهلي امرئ القيس حينما طلب من زوجته أم جندب أن تفاضل بين قصيدته عن الحصان وقصيدة أخرى لشاعر ينافسه هو علقمة الفحل، وحين قررت المسكينة أن تكون عادلة ونزيهة وحكمت لصالح خصم زوجها، صرخ الزوج في وجهها قائلاً: «أنت طالق يا أم جندب»، والحكاية وردت في المصادر النقدية التي تتناول النقد الفطري :»ومن ذلك احتكام علقمة وامرئ القيس إلى زوجه أم جندب في أيهما الأشعَر...احتكم مع امرئ القيس إلى زوجته أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعراً تصفانِ فيه الخيلَ على رويٍّ واحدٍ وقافيةٍ واحدة، فقال:
خليليَّ: مُرّا بي على أم جُندَبِ
لنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذَّبِ
وقال علقمة:
ذهبتِ من الهجرانِ في كلّ مذهبِ
ولم يكُ حقاً كلُّ هذا التجنّبِ
ثم أنشداها جميعاً، فقالت لامرئ القيس: علقمةُ أشعرُ منك.
قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:
فَللسوطِ أُلهوبٌ ولِلساقِ دِرَّة
ٌ زلِلزَجرِ منه وقعُ أهوَجَ مِنْعَبِ
فجهِدتَ فرسكَ بسوطكَ ومَرَيتَهُ بِساقكَ. وقال علقمة:
فأدرَكَهُنَّ ثانياً من عِنانه
يَمُرُّ كَمَرِّ الرائحِ المُتَحَلّبِ
فأدرك طريدته وهو ثانٍ من عِنان فرسه، لم يضربه بسوط، ولا مراه بساق ولا زجره. قال: ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامقة، فطلّقها، فخلف عليها علقمة فسُمّي بذلك الفَحل»...
والكارثة أننا ملأنا منهاجنا بتفاصيل قصص أخرى تؤكد أن مفهوم الهزيمة غير مقبول إطلاقا دون تلمس للأسباب الحقيقية للصراع ومنها قصة المؤامرة في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وقصة الانتقام في حرب البسوس بين بكر وتغلب، والكارثة الأخلاقية حينما يكون صراعهم من أجل سباق وقتالهم من أجل مضمار وانتقامهم من أجل ناقة وإقطاع وحمى وهذا يغرس في أذهان الصبية وغيرهم مفهوم الإقصاء والغرور اللذين هما المعوق الأكبر لتحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش في ظل احترام رغبات الآخرين ممن هم حولك...
إن البقاء على مستوى واحد مستحيل، فكل قوي يضعف، وكل صحيح يعتل، وكل شيء ماخلا الله باطل، وكل نعيم لامحالة زائل كما قال لبيد، وخيرمايدل عليه ما وردعن أنس رضي الله عنه فيما رواه البخاري قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، أو لا تكادُ تسبقُ، فجاء أعرابي على قعود له، فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ»
وهذه الحقيقة التي لاتقبل جدالا وقد أثبتتها الأيام ويمكن للمرء أن يدرب نفسه على التواضع وقبول النقد البناء الذي يتجاوز التشويه والتجريح والتقليل ويعد ذلك مرآة لتصحيح الأخطاء وكما قالوا رحم الله امرءا أهدى إليّ عيوبي، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح :التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو « التواضع «، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً، ولا يرى له عند أحدٍ حقّاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه «.والله من وراء القصد