تنشر الصحف المحلية والأجنبية بين الحين والآخر بعض الأخبار عن أجهزة وبرامج تسوق لغرض التلصص والتطفل حول شئون الآخرين وأخبارهم. ولأن هذه القضية شائكة ويتداخل فيها الرسمي بالشخصي فإنها تستحق المزيد من إلقاء الضوء بهدف تقليل المخاطر.
وأبدأ هذا الموضوع بقصة واقعية لما فيها من دلالات هامة؛ وسوف أبني عليها فكرة هذه المقالة بما فيها من عرض وتحليل. فقد نشرت القصة في افتتاحية لإحدى مجلات دائرة استخبارات أجنبية في عدد لها قرأته قبل عدة سنوات. وفيها، أن شخصا قد انفصل بحكم قضائي عن زوجته التي أصبح لها الحق القانوني في حضانة ابنهما الذي يبلغ الثانية عشرة من عمره. وتسكن تلك المرأة المطلقة في الطرف الآخر من نفس المدينة التي يسكن فيها طليقها. وقد تضمن حكم الطلاق أن يكون للأم كامل الحق في حضانة ابنهما، وأن ينحصر حق الأب في استقبال الابن في عطلة نهاية كل أسبوع. ويقضي الابن العطلة مع والده ليعود مرة أخرى في بداية الأسبوع التالي إلى منزل أمه.
وتعبيرا عن حسن النية فقد قام الأب بإهداء ابنه جهاز كمبيوتر بكامل ملحقاته وبرامجه ليفرح الابن بالهدية ويتعلم منها ويتسلى بما فيها من برامج. وبهذه الهدية قد يبرهن الأب لطليقته على كرمه وتسامحه وتعاونه أيضا في رعاية ابنهما. وفي عطلة نهاية أحد الأسابيع التالية جاء الابن إلى شقة والده مبكرا ودخلها قبل وصول الأب حيث كان الابن يحمل مفتاحا لشقة أبيه. وما أن دخل الابن إلى الشقة حتى انتابه شعور غريب حيث الأصوات التي يسمعها بوضوح ويصعب عليه تفسيرها. وما هي إلا لحظات حتى تيقن الابن أن ذلك هو صوت والدته في شقتها تتحدث بوضوح مع ضيوفها، وهو ما أصاب الشاب الصغير بالدهشة الشديدة لعدم قدرته على تفسير واستيعاب ما يحدث من نقل مباشر للأصوات من شقة أمه الكائنة في الطرف الآخر من المدينة.
وقد سارع الابن بالاتصال بأمه عبر الهاتف ليبلغها ويشرح لها أنه يستمع في تلك اللحظة إلى صوتها ومحادثتها لمن بمعيتها؛ وأنه قادر حقا على تمييز كل ما يدور في شقتها من أصوات. وقد تيقنت الأم بعد تقصي الأمر أنها تقع ضحية لعملية تجسس شخصي قام الأب بإحكامها عبر تثبيت بعض الوسائل والبرامج الخاصة داخل جهاز الكمبيوتر الذي كان قد أهداه لابنه قبل فترة قصيرة. وكان الأب قد سخر قدرته المهنية واستغل وسائل التجسس المتاحة من أجهزة وبرامج ليحقق بموجبها غاية شخصية.
ويعتقد أن الأب قد فكر في أقصر الطرق نحو استصدار حكم جديد يخول له الحضانة الكاملة لابنه. وقد نجحت تلك الخطة فنيا ومهنيا، لولا قدر الأم وحظها في أن ساعدتها الصدفة في اكتشاف ما حصل بتلك البساطة. ولأي سبب أبلغ من حذق الأب ونواياه، كان الأب قد نسي أن يقفل أجهزة التلصص حين مغادرته المنزل، ولذلك انهارت الخطة وكشفت النوايا.
ونظرا لتعلق الأب بابنه، وذلك شأن لا يلومه عليه أحد؛ فعلى ما يبدو أنه خطط لاستصدار قرار من المحكمة يلغي حضانة الأم ويمنحه حق الحضانة الكاملة لابنه استنادا إلى بعض المبررات التي رتب لإثباتها عبر التلصص. فقد عمل الأب على استغلال كل قدراته ومهاراته وخلص من ذلك بخطة جاسوسية تمكن من الإعداد لها وتنفيذها بتلك الطريقة غير الأخلاقية وغير القانونية. ولما تقدم من تصرف، يعتقد أن الأب كان يسعى لجمع أدلة أخلاقية كافية لإدانة طليقته وإثبات عدم أهليتها لرعاية ابنه وحضانته في بيئة عائلية محافظة. ولعل الأب كان يتلصص ويترصد لإثبات أن أحداثاً اجتماعية تدور في بيت الأم لا يجوز للقاصرين حضورها، سواء كانت تلك مجرد تهمة أو حقيقة. وتلك حجج يحتمل أن الأب حين يبرهنها عبر التسجيلات الصوتية قد تصبح دليلا قويا يترافع بموجبه لإثبات عدم أهلية الأم للحفاظ على ابنهما وتربيته التربية السليمة؛ وهكذا يمكن أن يكسب القضية.
وفي هذه القصة عبرة هامة يمكن أن ننظر لها من زاويتين على الأقل: فالأولى، أن رجلا عاديا تمكن بمجهوده الشخصي، وعبر وسائل تجارية متاحة للجميع، استطاع أن ينفذ عملا جاسوسيا فريدا. فلم يواجهه عناء كبير في التخطيط والإعداد لذلك وتنفيذه، عبر وسائل تجارية متاحة ومتيسرة. وتمكن بالفعل من الاستماع بوضوح إلى ما يدور من محادثات في منزل آخر يبعد عنه مسافة كبيرة. ومن زاوية ثانية، فإن ضمير الأب وأخلاقه المهنية قد انهارت عندما أراد أن يحقق مكسبا شخصيا عبر طرق مهنية محرمة وظيفيا وقانونيا وأخلاقيا. فمهما كانت غاية الأب في سعيه لاحتضان ابنه تبدو سامية ومفهومة، إلا أنه قد اخترق مبادئ وقيما هامة. وذلك مؤشر خطير على أن من كانت لديه القابلية لتجاوز القيم والقوانين والأخلاق في شأن شخصي فسوف تكون قابليته كذلك في شئون أخرى.
وهذه القصة تقودنا إلى عالم سفلي لم تعد آفاقه خفية، رغم ما فيه من أسرار ومستجدات. ولا تزال الصحف تنشر بين الحين والآخر عن أجهزة متنوعة وأنظمة وبرامج تخترق البيوت والمكاتب؛ بعضها مسموح في دول، ويهرب إلى دول أخرى؛ وكلها في مجال التلصص والتطفل على حياة وشئون الآخرين. وفي عالم التلصص والتجسس يختلط أمن الناس بالأمن الوطني بما في ذلك أمن الأفراد وأمن المواد وأمن المعلومات للأشخاص وللشركات وللدولة على حد سواء. تحديات متجددة تتطلب وسائل وبرامج وأداء وفعاليات مضادة تصب جميعها في منع كل من أراد التنصت أو الكشف أو التلصص والاختراق من الحصول على معلومات تحقق مكاسب للعدو والمتطفل وتضر بالوطن وبخصوصيات ومصالح الناس وبالمؤسسات.
وحتى تتحقق الكفاءة والكفاية في إجراءات ووسائل الحماية المضادة، فإن مجهودات كبيرة مادية ومعنوية لا بد أن تبذل بصفة مستمرة، على مستوى المؤسسات والأفراد وبمبادرات شخصية ورسمية.
ومهما كانت درجات تحقيق الحماية بالأمن المضاد الشخصي والرسمي محكمة ومرضية فسوف يظل هنالك تجاوزات كبرى تفرضها الطبيعة البشرية، وتفرضها تحديات مستجدات التقنية. وليس بعيدا عنا قصص أخرى مستمرة أبطالها من يسمون «بالهاكرز»، يزاولون عملياتهم ومداهماتهم لشئون الناس في ميادين شبكات المعلومات، وأجهزة وشبكات الاتصالات. ومثلما أساء صاحب القصة السابقة قدرته المهنية لمصلحة شخصية وعائلية، فإن هنالك مجال واسع من المصالح الشخصية يمكن أن يجذب اهتمام البعض نحو مكاسب شخصية بما فيها من تحديات ومنافسات وثأرات وحب وكره وإيديولوجيات وفلسفات عمل، وغيرها.
إن كثيراً من السلبيات التي تتم في مجال التلصص تنتج عن تصرفات عبثية فيها أنواع من الفضول أو ضعف الانضباط وغياب ما يسمى بميثاق شرف العمل المهني الحساس، في كل مؤسسة فيها مجال للعبث والإساءة. ميثاق الشرف المهني للشركات المصنعة والمسوقة وللعاملين في هذه المجالات يفترض أن ينبع من ضوابط دقيقة يحكمها نظام مراقبة ومحاسبة صارم، ويفترض أيضا أن تعمل به وتطوره الشركات والحكومات على حد سواء. بل، أن الأشخاص العاديين كصاحب قصتنا آنفا عليهم أيضا التزامات أخلاقية ومهنية أكبر، ويفترض فيهم أن يلتزموا بكل قيم ومقومات احترام الأنظمة واحترام خصوصيات الناس وشئون ومساحة حياتهم.
مصطلحات من قاموس فن الحرب؛ كالهجوم والدفاع والحماية والتسلل، والكشف والاستطلاع، والاستطلاع المضاد والاختراق والسواتر. تستخدم هذه المصطلحات وغيرها في عالم جديد من الحروب ما بين ظاهر وخفي. هذه الحروب لا تنفذ خططها في الأرض أو الجو والبحر بل في فضاء الكتروني وسائلها أجهزة الكمبيوتر والكاميرات بأنواعها وأجهزة الاتصالات والبطاقات الممغنطة وقواعد المعلومات المتنوعة عن الأشخاص والشركات كما هي عن الدول والأحزاب. وبقدر ما يستهدف في هذا الفضاء الالكتروني مركز معلومات أو قيادة وسيطرة عسكرية، تستهدف قواعد معلومات صناعية وعلمية وتجارية؛ وكذلك يستهدف عامة الناس.
وبقدر ما يكون الهجوم والدفاع والحماية والاختراق بين قوى متضادة ومتكافئة أحيانا، يكون هنالك آخرون من الأبرياء يقعون ضحية غياب الضوابط المحكمة والمتجددة أو انعدام الأخلاق والضمير في منازلة غير متكافئة وهم في غفلة من أمرهم. فبمثل ما يحرف كلام شخص في مناسبة محددة ويحمل ما لا يحتمل، قد تستل صور ثابتة أو متحركة، وكذلك تسجل مواقف، وتقتبس كلمات من سياقاتها، وتحور أحداث وتصنع أدلة؛ ويظل الضحايا على غفلتهم وبراءتهم حتى تثبت إدانتهم مع سبق الترصد والتلصص دون سبب، أو يكون القدر حليفهم كما كان حليفا لصاحبة قصتنا أعلاه.
وبقدر ما تتسابق الدول في حروب المعلومات، تتنافس الشركات والأحزاب، وينخرط بعض الأشخاص أيضا في هذا المضمار. وليس بعيدا عنا ما حدث في دولة متقدمة وكبرى قبل قرابة السنتين، حيث كبار ساسة ومتنافسين في انتخابات وطنية وقعوا ضحية تلصص على معلوماتهم وجوازات سفرهم بغية كشف بعض أوجه النقص للنيل منهم وهزيمتهم. وبقدر ما تتسع رقعة سوء استخدام برامج الانترنت وما شابهها من أجهزة ووسائل المعلومات والاتصالات بقدر ما تضيق مساحة خصوصية عامة الناس. ولم يتوقف الاختراق والتنصت أو التلصص على كشف معلومات بعينها فقد تجاوزها إلى القدرة على تحليل شخصيات الآخرين واهتماماتهم وعلاقاتهم وميولهم تجاه قضايا معينة أو أشياء محددة - حتى في مجالات التسوق والقراءة والمأكل والمشرب - من خلال ما يتوفر عنهم من معلومات تحفظها شبكات الانترنت وقواعد المعلومات. ولو افترضنا صعوبة حصول الأفراد على تقنية عالية في مجال التنصت والتلصص وتلبية حاجات الفضول، فإن ما هو متاح للبيع في محلات علنية من أجهزة ومعدات وخبرات يعتبر كفيلا بالتنصت وكسر الخصوصية بالصوت أو الصورة أو بهما معا. ولعل من أبسط تلك الأجهزة وأقدمها انتشارا تلك التي تتيح لمستخدمها الاستماع إلى همس بين آخرين على الطرف الآخر من الطريق أو المواقع المجاورة، وما شابهها من كسر حواجز الخصوصية عن بعد.
وقد كان التجسس والتلصص وما بينهما من مسموح وممنوع تتم في الغالب عبر وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية؛ ولكن هذا الشأن قد أخذ في الاتساع حتى أصبح كثير من شئون الناس وخصوصياتهم رهن لما في هذا العالم من قيم وأخلاق وقوانين. فقد أصبحت وسائل الاتصالات الشخصية عبر الانترنت وشبكات الاتصالات الشخصية وغيرها الكثير من الأجهزة الشخصية والبطاقات المرتبطة بقواعد المعلومات مجالات خصبة للمعنيين بتتبع شئون الناس، واختراق خصوصياتهم.