ثمّة شيء حدث في الآونة الأخيرة جعل حزب الله وحلفاءَهُ يتراجعون عن لغة التهديد نسبياً. الكل يتذكّر التهديدات التي أدلى بها مسؤول في حزب الله بأنّ على 14 أذار أن يرتعبوا وليس فقط أن يخافوا.
السياسةُ ملعونةٌ. هذه فكرةٌ ثابتةٌ في الثقافة العربية. إذْ لكثرة ما رأى الناس من انقلاب مصائر الحكّام والقادة في التاريخ العربي، قتلاً وشنقاً وسحلاً وسملاً للعيون والموت صبراً وخوزقة، لكل هذا طلعوا بتلك الأمثولة. السياسة لعينة. وحزب الله لا يشذّ عن القاعدة، فمنذ أن بدأت قراراته تنزاح من وظيفة تحرير الأرض الاستثمار السياسي، وهو يغطس باحثاً عن تأكيد الأمثولة. أراد بدايةً اللعب السياسي مع الاحتفاظ «بشرف المقاومة». لكن اللعب السياسي له قواعده، فما إن تجلسَ على الطاولة حتى ينظر اللاعبون إلى بندقيتكَ المُسندة على الكرسيّ نظرةً شزرة. ما منْ أحد يرغب باللعب تحت تهديد السلاح طبعاً. الأمرُ الذي يمارسه حزب الله منذ أشهرٍ، ولسان حاله يقول: العبوا بشروطي أو يلعب الرصاصُ في رؤوسكم.
ما الذي حدث؟ ما الجديد؟
في نكتة سورية تتناول سذاجة الفلاح في فهم التكنولوجيا، تساءل فلاحٌ أمام ابن قريته المُتعلّم والساكن الشام عن كيفية عمل التليفون. قال المتعلّمُ: التليفون مثل الكلب. انبهت الفلاحُ.. كيف؟ افرضْ إنّكَ كلب ذيلك هنا بالشام ورأسك هناك في القرية. إذا «عقصتَك» من ذنبك ألا تعوي؟ أجاب الفلاحُ: إي. والله أعوي. وكذلك التلفون.
كانت «العقصاتُ» تتوالى من طهران للتصعيد خدمةً لسياسة حافّة الهاوية التي تجيدها طهران، لعل وعسى أن تصل إلى تسوية في موضوع برنامجها النووي، إضافة إلى فهم طهران من أنّ أوان الحصاد قد حان، بعد أن بذرتْ ورعتْ. فحزب الله كان على مستوى عالٍ في مواجهة التحديات. حزبٌ احتكر مقاومةً ناجحة. حزبٌ يتمتّع بانضباط عالٍ. حزبٌ يقوم بخدمات لا تقوم بها دولٌ. والأهم تلك السمعةُ والمصداقية الاستثنائيتان، على الأخص وسط هذا الركود العربي. ليس من حزب ولا مقاومة في التاريخ العربي الحديث حازا على مثل هذا التأييد المشغول عليه جيّداً. يكفي للدلالة على هذا أن نتذكّر تلك الحركة الاستعراضية من قِبل أمين عام الحزب حسن نصر الله ساعةَ وجّه كلمة مُرتّبة ومحسوبة وموظّفة، عندما ضرب حزب الله بصواريخ بحرية سفينة حربية إسرائيلية في حرب 2006. كانت الحركة إعلامية بامتياز، هدفُها القول للناس: انظروا كم نحن صادقون، والآن تصاب السفينة الإسرائيلية. تماماً لحظةَ نطق الأمينُ العام هذه الجملة جرى إطلاقُ الصواريخ. صواريخٌ إيرانية بالطبع. إذن بعُرف طهران والحزب معها أن الوقتَ وقت حصاد. وأيضاً ليفهم الجميع أن إيران لها حدودٌ على المتوسط، يحرسها حزب ذو مصداقية، ويفعل عند اللزّة والحزّة. فهلْ من مساوم؟
الإشكال هو أنّ طهران اعتادتْ أن تكون لاعباً وحيداً ينتصر في كل مرّة، منذ أن تخبّل القرارُ الأمريكيّ وأراد أبْلسة صدام، لينتصر ويشعر بزهو الدولة الأعظم. والحال أنّ دوام الحال من المُحال. فالمحكمةُ الدولية لم تَعُدْ صالحةً للتوظيف في سياسة حافّة الهاوية، فالدول الكبرى جميعاً تصرّ على أنها لن تتدخل في المحكمة، وأنّ المحكمة مستمرة، وتأثير العقوبات الدولية على طهران بدأ بإظهار مفاعيله. باختصار لا مساومة. كان تفكير طهران ومعه حزب الله أن التهويل بشيء يشبه الحرب الأهلية للاستيلاء على لبنان نهائياً، يمكن أن يردع الآخرين ويجبرهم على المساومة. ورغم أنّ الأمر مازال محتملاً، إلاّ أنه يزداد ضعفاً باستمرار. فضلاً عن أنّ الرصيد المتآكل للحزب شارف على الانتهاء. ثمّ إنّ عنفاً عارياً من حزب الله سيجعل السياسة الإيرانية مكشوفة تماماً. وهو أمرٌ لطالما حرصت على تمويهه. فليس أفضل من مناخٍ توفّره القوى الإسلامية والعربية بصراخها المتواصل ذي العداوة لكلّ شيء تقريباً. فقدان هذا المناخ الذي يوفّره العربُ مجّانا لطهران, سيسقطُ كل أقنعة الخطاب، ويظهره نظاماً مشغولاً بتثبيت نفسه، وبالتوسّع على حساب الآخرين ما أمكن. أي إنه السقوطُ المدوّي لاستراتيجية طهران المتظاهرة بالدفاع عن مصالح المسلمين والفلسطينيين.
فلا عجب من أن تتوالى «العقصات» المضادة الآن آتية من طهران, أنِ اهدأوا وخفّفوا التهديد، ومن المحتمل أن تأخذ «العقصات» طابع توجيه متواصل في زيادة جرعة الوطنية في خطاب الحزب، ريثما يتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض. يعني.. إما حصول مساومة كبرى تنتصر بها إيران من جديد وعلى حساب العرب أيضاً، أو تدور الدائرة ويحصل الصدام. وفي الحالة الأخيرة على حزب الله أن ينبذ كل شيء ويستولي على الأمن والسياسة في لبنان. ولتذهب وعود عدم استخدام الحزب للسلاح في الداخل إلى الجحيم. فكيف له أن يحتفظ بعهدٍ وولاية الفقيه في الخطر!
أخيراً هل ينجح من يؤمن بولاية الفقيه في أن يكمن ويخطب بالوطنية اللبنانية إلى ساعة حقيقة؟