لاشك أن الأيام حبلى بما فيها والمرء ما بين سباق للخير ومقتصد وظالم لنفسه والسعيد من اتعظ بغيره وعاش في دنياه لآخرته واغتنم حياته قبل مماته وفراغه لشغله وصحته قبل مرضه، قال صلى الله عليه وسلم: (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) ولهذا كان مما أوصانا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) فما أعظمها من سعادة عندما يسخرها العبد في رضا ربه سبحانه وتعالى (وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
فمنذ أيام قلائل، فقدنا رجل من الذين لهم الأثر البالغ في بذل الخير ونفع الغير عرفه الصغير والكبير منذ ما يقارب 40 سنة في فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالرياض من خلال قيامه بمأذنة المسجد الذي ينادي فيه كل يوم لصلاة الظهر (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أعني بذلك (أبا غانم) الذي توفي على إثر حادث مروري هو وابنه غانم وأصيب البقية فصُلي عليهما في جامع الأمير عبدالله بن محمد - بعتيقة- في جمع كثير من الناس أمهم فيه فضيلة الشيخ عبدالعزيز الحمدان مدير إدارة شؤون الدعوة بمنطقة الرياض وخطيب الجامع.
لقد رأيت في هذا الرجل حبه للخير وقيامه بالأعمال الصالحة فكنت أحياناً أبحث عنه فإذا به يصلي (صلاة الضحى) فما أعظمها من لحظات عندما تشاهد هذه المواقف الإيمانية في وقت انشغل فيه الناس بالقيل والقال وبمعاملاتهم الدنيوية ثم تجد مثل هذه النماذج الخيرة في مجتمعنا، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب).
حتى أخبرني أحد المقربين منه فقال: بأنه كان يقوم بفرش السجاد في مصلى العمل عندما كان في الشميسي ثم يؤذن للصلاة حتى نقل الفرع إلى مقره الحالي فاستمر في ذلك مع حرصه الشديد على الأذان وعدم التفريط فيه حتى توفي رحمه الله. ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤذن يغفر له مدى صوته ويستغفر له كل رطب ويابس) بل كان رحمه الله إذا جلس في المسجد بعد الأذان يقوم بتوزيع المصاحف على المصلين لقراءة القرآن اغتناماً في الأجر. حقيقة لقد رأيت فيه حبه لمجالس الذكر وحرصه عليها حتى قبيل موته عندما جمعنا به مجلس مع بعض الزملاء وكنا نتناقش في بعض الأحكام الشرعية في الطهارة وكيفية الغسل فجاء إلينا عندما سمع الحديث في ذلك فجلس يستمع ثم بدأ يوضح للإخوة كيفية ذلك وينصح لهم ويقول: (الدين سهل وواضح لكننا مقصرون فيه) وكأنه يستغرب الجهل في مثل ذلك!! وكان مما عرفته عنه رحمه الله حرصه على تطييب المساجد وتبخيرها وتنظيفها وما مصلى الفرع إلا صورة تعبر عن نفسها بل زاد به الأمر في ذلك إلى مسجد الحي الذي يسكنه يرحمه الله ولا أبالغ إذا قلت بأنه تجاوز السبعين من العمر ومع ذلك تجده ما بين أدوار الفرع يقضي حوائج الناس ويخلص معاملاتهم عندما يكلفونه بها لا سيما التي تتعلق بالمساجد، وقل مثل ذلك في الشفاعات ومساعدة الفقراء والمساكين حتى أنه يرحمه الله يذهب إلى أهل الخير ويخبرهم على أماكن المحتاجين لسد حوائجهم فكان له الأثر البالغ والدور البارز في عائلته وأقاربه، ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).. ومع ذلك كان يرحمه الله له مداعباته ولطفه مع الزملاء والمحبين له يدخل عليهم البهجة والفرح إذا رآهم.
وأخيراً: روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا تتحات ورقها ولا.. ولا.. تؤتي أكلها كل حين فقال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة) ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك ألا تتكلم؟ فقال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر: لئن قلتها أحب إلي من كذا وكذا).
أسأل الله أن يغفر لأبي غانم وأن يتجاوز عنا وعنه وأن يجعل ما قدمه في موازين حسناته ولا أقول إلا وإنا لفراقك يا أبا غانم لمحزونون.