هل يمكننا أن نتخيل هذه الحياة من غير أصدقاء؟ نعتقد صعوبة طرح مثل هذا السؤال في وقت تتعقد فيه العلاقات الاجتماعية بين الناس، بل وتتشابك بين المجتمعات والشعوب، بل أصبح هذا التساؤل مستحيلاً في عصر القرية الكونية التي يصعب فيها تصور العزلة أو الانكفاء على النفس أو التقوقع حول الذات والأنا.
فالصداقات هي واقع اجتماعي في عالم البشر، أما قصته أو مقولة (الخل الوفي) فهي صفة يسعى الناس إلى الحصول عليها والفوز بها في عالم الصداقات في وقت عزّت فيه نماذجها، وأصبحت حلماً لا يفوز به إلا ذوو الحظ العظيم في الدنيا.
وقد أصبحت الصداقات الحقيقية نادرة في حياتنا، ولعل ذلك ما جعل ترديد نماذجها أو التحدث عن ذكرياتها قليلاً أو لا نكاد نسمعه إلا بين حين وآخر بعد أن طغى الجانب الآخر وتغلغل بين تجارب الناس.
غير أن ذلك لا يمنع وجود صداقات حقيقية يتفانى فيها الصديق لسعادة صديقه؛ حيث قامت العلاقات بينهما على أسس راسخة قوية من المشاعر الفياضة المتبادلة والنصح والنصيحة، وتقوى الله في السر والعلن، والحرص المتبادل على إسعاد الصديق، فإذا بك تستودعه سرك ويهمه أمرك، فيحزن لحزنك ويهتم لهمك، ويفرح لفرحك ويسعد لسعادتك، يبادلك الإخلاص بمثيله من الإخلاص، ويحسن بك الظن ولو أساءه غيره من الناس؛ فهو يعرف معدن الرجال، ويدرك قيمتهم، ويعي كيف يحافظ على الصداقة من خدوش الفكر حين يفارق حقيقة الواقع، أو يبتعد عن جادة الصواب.
إن في دنيانا نماذج - وإن قلت - لأصدقاء حقيقيين وقفوا مع أصدقائهم في السراء والضراء، قدموهم على أنفسهم في قضاء حوائجهم، وبذلوا الوقت والجهد لإسعادهم وحل مشكلاتهم، وضحوا لنصرتهم أو لانتشالهم مما يعكر صفو حياتهم من مشكلات، وعرَّضوا أنفسهم للقيل والقال من أجلهم، لم يهمهم سوى أن تستمر الصداقة قوية، والعلاقة متينة مادامت خالصة لوجه الله تعالى.
فالصديق الحق ينظر لصاحبه على أنه أخ لم تلده أمه يتمسك بأخوته ويحرص عليها، ويتفانى من أجلها، ويضع نصب عينيه في ذلك قول سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أنس رضي الله عنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه. ومثل هذا الصديق الفاهم لمعنى الصداقة، والمدرك لحقوقها وواجباتها، يُقبل على صديقه إذا أدبرت عنه الأيام، ومهما اشتدت عليه المحن، أو ابتعد عنه الناس ولعل هذا ما أكدت عليه أدبيات الصداقة حين قال الشاعر:
إن الصديق الحق من كان معك
وقد يضرُّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريبى الزمان صدعك
شتت فيك شمله لينفعك
ومهما كانت المبالغات التي نظنها في ذلك القول، وقد يشاركنا فيها الرأي الكثيرون فإن هذا القول يظل شاهداً على المدى الذي وصلت إليه الصداقات من تقديم لمصلحة الصديق مهما كانت الأخطار التي يتعرض لها الصديق الآخر، لتبقى هذه الصداقات بنماذجها قوية راسخة في عالم الناس، وإن كانت ستظل نوعاً متميزاً وصعب المنال. ولكن: كيف يمكن أن تستمر مثل تلك النماذج في حياتنا؟ وكيف يعود صفو الحياة إلى الصداقات ويبتعد عنها ما يكدرها؟؟ إن هذا الأمر يحتاج لوقفة جديدة ومتسع في حديث قادم. بعون الله.
وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام - سابقاً