بعد تدخل أميركي بلغ حد التوسل، ذكّرت واشنطن خلاله قيادة بني صهيون أن السلام في الشرق الأوسط صار مصلحة قومية أميركية، وتاليا مسألة لا يجوز لأحد إهمالها أو القفز من فوقها، أو وضع مصالحه الخاصة في مواجهتها أو خارجها. وبعد مواقف أوروبية متنوعة ومتكررة طالبت بالسلام والدولة الفلسطينية ووقف الاستيطان.
وبعد تصريحات متعاقبة من أمين عام الأمم المتحدة السيد بان كي مون ترجو إسرائيل وتطلب إليها مواصلة تجميد الاستيطان والعمل لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي تحظر بقاء قواتها في أراضي فلسطين المحتلة.
وبعد مواقف روسية وصينية، إفريقية وآسيوية وأميركية لاتينية وإسترالية، أعلن باراك، وزير حرب العدو: «أن فرص السلام بلغت نسبة خمسين بالمائة».
هذه «البشرى» تطرح مجموعة من الأسئلة المفزعة: إذا كان الضغط الدولي الشامل، المطالب بصورة لا لبس فيها بقيام دولة عربية على أرض فلسطين الوطنية، وبانسحاب لا شبهة فيه للعدو منها، لم يرفع نسبة تحقيق السلام إلى أكثر من خمسين بالمائة، ولم يرجح كفته على كفة استمرار الاحتلال، فكم كانت هذه النسبة في الماضي: واحد فوق أم تحت الصفر بالمائة؟.
وإذا كان العالم بأسره، الذي يقف اليوم في الصف المقابل لإسرائيل، لم يستطع إقناعها بأولوية السلام، وبالتخلي عن فرض واقع يخالف القانون والشرعية الدولية، سنده حجة تجافي العقل والأعراف والتقاليد والمنطق، وكذلك قديم التاريخ وحديثه، هي ما يسميه الصهاينة «وعد قطعه الله لليهود بجعل فلسطين ملكا لهم على مر الأزمان وإلى أبد الدهر»، فإن هذا له معنى وحيدا هو استحالة السلام بين العرب والإسرائيليين استحالة مطلقة بنسبة مائة بالمائة.
نحن لسنا إزاء سلام محتمل أو ممكن، وعلينا مواجهة الحقيقة المرة، وهي أن السلام مستحيل وطريقه مغلق إلى إشعار آخر.
هذه الاستحالة ترجع إلى جملة معطيات، لعبت الدور الرئيس في تقرير مواقف الصهاينة، وسدت درب السلام العادل الشامل، هي:
1 - عدم وجود تعريف دولي واضح لأمن إسرائيل، وعدم تحديد موقف دولي واضح ونهائي منه.
يقول الأميركيون اليوم إن الدولة الفلسطينية مصلحة قومية أميركية، لكنهم يبقونها على عتبة من الأهمية أدنى بكثير من عتبة أمن إسرائيل.
هذا «الخلل» في السياسات الأميركية - والأوروبية بما في ذلك الروسية -، يعطي إسرائيل فرصة مفتوحة للتلاعب بأميركا والعالم.
ما هو أمن إسرائيل؟.
أين يبدأ وأين ينتهي؟.
هذان سؤالان لا بد من طرحهما على العالم عامة وأميركا خاصة.
إذا كانت الضمانات النووية والأسلحة الأميركية الفائقة الحداثة لا تكفي لإقناع الإسرائيليين بأن أمنهم مضمون، وبأن عليهم التخلي عن أكذوبة الأمن، حين يدور التفاوض حول حقوق الشعب الفلسطيني والبلدان العربية، وإذا لم يدركوا أن السلام مع العرب سيضيف ضمانة سلمية لا شك فيها إلى مجموعة الضمانات الدولية التي تكفل استمرار الكيان الصهيوني، بعد انسحاب جيشه المحتل من أراضي العرب في مقابل اعترافهم بوجود إسرائيل في أراضي عام 1948، فما الذي سيقنعهم إذن؟.
وهل من التطرف أن نطالب العرب والعالم بتحرير السلام من أمن العدو، وإلا بقي منضويا تحته وثانويا بالنسبة إليه، وظل بعيد المنال ومستحيلا؟.. إذا استمرت أميركا في رؤية السلام بدلالة أمن إسرائيل، وواصلت اعتباره أقل أهمية منه أو تهديدا محتملا له، فهذا يعني أحد أمرين: إما أن ساستها لا يعرفون القضية التي يتعاملون معها، أو أنهم ليسوا راغبين في السلام.
وللعلم، فإن كلا الاحتمالين واقعي تماما، خاصة الثاني منهما، بدلالة حقيقة تستحق أن تذكر هنا، هي أن الولايات المتحدة أدارت منذ عام 1942 وحتى اليوم أزمات العرب من خلال جروح نازفة في جسدهم أهمها قاطبة الجرح الفلسطيني، الذي يبدو أنها لا تريد التخلي عن وظيفته كأداة لاستنزاف العرب والمنطقة، ولإبقائها في حال من الاضطراب والبلبلة تعينها على الإمساك بمفاصلها والتحكم فيها.
إذا كان صحيحا أن هذه هي الحلقة المركزية في علاقة أميركا مع إسرائيل، يكون من الصحيح أيضا أن السلام ليس أولويتهما، وأنه لم يبق هناك من لغة غير لغة السيف بيننا وبين الصهاينة، مهما تحاشينا مواجهتهم واستسلمنا لهم.
2 - افتقار العرب إلى سياسة مكرسة للرد على استحالة السلام في فلسطين، وعلى واقعة مثبتة تاريخيا هي أن للعدو برنامجا وحيدا هو التوسع والحرب.
يعني أمن العدو امتلاكه القدرة على التوسع في أرض العرب وشن الحرب عليهم من جهة، ويعني بقاء العرب ضعفاء وعاجزين من جهة أخرى.
لذلك، لا أمن للعرب إذا هم ظلوا مفتقرين إلى القدرة على كسر حلقتي الأمن الإسرائيلي هاتين: بمنعه من التوسع ومن شن الحرب، بواسطة قوة ردع عربية فاعلة، يعرف العدو أنها تستطيع إجباره حربا على التخلي عن التوسع والعدوان، إذا لم يتخلَ عنهما سلما، ولم ينسحب من الأرض العربية المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان، واستمر في رفض الأمن الذي يتيحه له مبدأ «الأرض مقابل السلام».
بغير هذه القوة، لن يصل العرب إلى أي هدف من أهدافهم، ولن يقلع عدوهم عن التهام أوطانهم، قطعة بعد قطعة، أو عن الاعتداء عليهم بلدا بعد بلد، كل بضعة أعوام.
3 - افتقار العرب إلى سياسات تركز جهودهم بحق على فلسطين، من مستلزماتها وقف أي خلاف عربي / عربي يضر بكفاحها ومصالحها، مباشرا كان أم غير مباشر، وتجميد أي نوع من العلاقات بين بعض دولهم وبين العدو، إلى أن يقتنع بأنه يواجه قوى عربية أكبر من أن تمكنه من حسم الصراع الذي يخوضه لصالحه، وأن أوهامه حول تهويد فلسطين قاتلة، وتصيبه بقدر من الأذى سيقصم ظهره بمرور الوقت، فلا مفر من أن يعلن استعداده للانسحاب من الأرض العربية دون شروط مسبقة أو مفاوضات، تطبيقا لقرارات الشرعية الدولية، التي تمنع احتلال أراضي الغير بالقوة، وإحداث أي تغيير أرضي أو سكاني فيها.
إذا استمرت أميركا في رؤية السلام بدلالة أمن إسرائيل، واستمر انقسام العرب حول فلسطين وتنظيماتها، وبقيت ورقة في عمليات الشد والجذب البينية العربية، وظلت علاقات العرب مع الصهاينة أكثر عمقا من علاقاتهم بعضهم مع بعض، يكون من الضروري قراءة الفاتحة ليس فقط على السلام، بل كذلك على العرب.
في هذه الحالة، لا يكون السلام وحده مستحيلا، بل تكون نجاة العرب أيضا مستحيلة!.
مع إفشال مفاوضات السلام،قال رئيس أركان جيش العدو الجنرال في شهادة أمام الكنيست: إن جيشه مستعد لاحتواء الآثار المترتبة على إخفاق المفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية، وأنه جاهز لقمع أي تحرك شعبي فلسطيني، أي انه جاهز لارتكاب مجزرة جديدة ضد الفلسطينيين، وأنه تلقى أوامر من قيادته السياسية بالاستعداد لامتصاص رد الفعل على إفشال المفاوضات، التي يقول باراك إنها ستفشل أو بالأصح فشلت، عندما يؤكد أن نسبة نجاحها تتساوى مع نسبة فشلها، الذي يكاد يكون مؤكدا في غياب موقف أميركي صحيح، يضع أمن إسرائيل تحت أولوية بدل العكس، وموقف عربي مكرس فعلا لا قولا لقضية فلسطين، وموقف فلسطيني يتوقف فيه كل واحد من الطرفين المتصارعين، فتح وحماس، عن الإمساك بتلابيب الطرف الآخر،بدل أن يضع يده في يده ويسانده ويحميه.
خلال سنوات كثيرة، رفضت قطاعات واسعة من العرب السلام وتوهمت أنه في متناول يدها متى أرادت, وزعمت أن العدو مستميت لتحقيقه، لأن فيه أمنه ومصالحه.
واليوم، يظهر جليا أن السلام مستحيل لأنه ليس هدف إسرائيل، ولأن تحقيقه لم يتوقف يوما على قبول العرب، وأن استحالته تجعل تحقيقه رهنا بمواقف عربية مختلفة، تستطيع إجبار العدو على قبوله بالقوة، إن واصل رفضه بالمفاوضات والاستجداء!.