في يوم له هذه الطبيعة الجنونية ليومنا لا يصبح الإنسان وحيداً أبداً مهما بالغ في الشعور بوحدته وبالحنين وبالتوق الفطري لوحدة الوجود الكلية. البشر متصلون بالماضي والمستقبل وببعضهم بخيوط لا تحصى.. بل إن مجرد الوجود يعقد رباطاً مع العالم بأسره.. ومع تاريخ البشرية كله.. هذه هي الزاوية الحرجة التي يقع فيها الفعل الفني والتي يعيش فيها مهابته وعظمته كحالة إبداعية. الحالة التي تجعله متصلا بكل فرد. إذ يمكننا التأكيد على أن العمل الفني مهما بالغ في إنشاء حياة منفصلة مكرسة لتمجيد فكرة معينة..إلا أنه كأثر كل نشاط إنساني، له معنى جوهري يجعل مسؤولية الفنان، تجاه المسلك الإجمالي للحياة الإنسانية أكبر..على نحو يحفز النبالة والقوة الروحية. ليس كفعل نخبوي جهادي ملزم بوعي الاختيار بل كفطرية يغذيها ذلك الارتباط الخفي والماثل في حقيقته.
في عالم حيث ننتهي من حرب لنبدأ أخرى مهددين بحرب أكبر قادرة على إبادتنا. حيث العلل الدينية توجد على ضفتي ميزان يتمايل بشدة، حيث جرح المجتمع لنفسه يزيد تفسخا وفداحة، حيث المعاناة تستصرخ الرحمة. لا بد وأن على الفن أن يجد سبيلا ليتصل البشر ببعضهم وبالحياة. هذا هو الاتصال بالحقيقة والواجب المقدس للجنس البشري تجاه نفسه ومستقبله. بل والواجب الشخصي والوطني لكل فنان. إن وجودنا اليومي والضغط العام للتكيف والامتثال يجعل من السهل اختيار طريق الانحطاط والتفسخ الروحي والتنافس العنيف الأحمق. لكنه يسم كل وجود مصغر للوجود الجمالي «بشكل المنجزات الفنية» بسمات الوجود البشري الأكبر الذي يتحرك.. يتواصل.. يتناسل.. داخل نفسه مكرراً ومعظماً من شأن عالمه.. لا من شأن عالم آخر. لذلك فموضوعات الفن هي بالضرورة تغرف من منهل هذا الكون الذي نتشاركه. وهي لذلك تخصنا جميعا.
إن التأمل في مجمل الأعمال الفنية المعاصرة وقياس المستوى من الحرمان العميق جدا الذي يؤدي بالفنان لطبع إنهاكه المتزايد مرة تلو أخرى.. والتعبير عن ضعف صوته الذي يملأ كل لحظة من لحظات وجوده. في مواجهة عالم مادي ماكر وعنيد بأدوات إما متكلفة أو مبتذلة بعدمية. يجعلنا أكثر إدراكا لحالة الفنان الذي يقاوم مرضاً في هذا العصر احتمال شفائه أكثر صعوبة من أي وقت مضى. وأيا كان مدى وعي الفنان أو جمهوره بمدى تأثير الحياة وامتدادها فيه فإن خلاصة كل عمل فني ليست أكثر من انطباع مباشر عن الحياة.. الحياة التي تعنينا ونعيش فيها جميعنا ووصل بها كل واحد منا إلى هذه الحال.
الزمن يترك أثره في الفنان كما يترك أثره مع أفراد مجتمعه وأفراد العالم أجمع. هذا التشارك يتواشج في إيقاعية خفية مع المنجز الفني..حيث ذلك الأثر تحديداً سبباً في رفع الإدراك العاطفي للفنان إلى ذروة ينتهي فيه العمل من بين يديه ليمضي في حياة جديدة نحو الآخر.
كل فن هو مرتبط بالضرورة بالحياة بمجمل معانيها إنما ليس كل فنان يملك ضميراً قادراً على أن يرشده.. يكرس نفسه للبحث عن الإيمان - المثال..وعن الخير. لكن حتى وإن لم يكن ممكنا لنا حيازة حق بالمطالبة بهذا دائما فإن شروط العمل المثالية بالضرورة لا تهمش من ضرورة حضور الحقيقة بامتدادها وصولاً إلى ما يطمح إليه الإنسان.
- الرياض