في الطريق إلى الفسطاط، ومن ثم إلى النجف، سوف أستعين على دموعي بمناديل فلاحات طبرق والصعيد، وفوق الجمل الصبور سأتلهى بعدّ الديدان داخل ثمار حجتي الأخيرة.
للمرمر الموشح بالحليّ والثمار أقول: وداعا !
للجديان، تنط بين أغصان اللوز وشرايين طفولتي.
للأنامل، المسرفة في السرقة والتسبيح، ألوّح بأصابعي المبتورة.
موحلا .. جاؤوا بي من غدران الحبشة، ثم همسوا في أذن البغل:
- هدّم هذا الحصن!
- عضّ تلك السافرة!
- هدّم القيروان!
منفياً من حدائق الأندلس حملوني ليلاً داخل سلاسل وأغلال وخلاخيل.
وها أنا في قاع المتوسط مع «سرفنتس» أدق أجراس الكنائس، ولا أجد في العربية لساناً قادراً على ردّ التهمة وتهجّي الأشباح!
في ظرف عشرة أعوام – منقوصة من الأحلام – أنجزت طموحاتي كلها.
وبعناية مخصوصة من ظلال المعنى، صرت رجلاً سئ السمعة !
حتى الفتاة المجحفة في مداعبة ثمارها، فإنها من العذوبة بحيث لا يمكن - لفرط كذباتها - أن تكذب.
قالت :
- لم تنجح، يا عزيزي، في أي من انتخابات القرية والحب!
- لم تنجح في المدينة والشعر معا!
- وإذن: فلماذا أنت؟
قلت :
وحلمي أن تهبني من سقوف الخرائب عشّا أتفرج منه على هذا الشعب الطيب وهو يخبز الأقاويل ويقشّر زغب الطير بملاقط فارسية من فضة أصفهان!
لا أعرف ذكراً من أبناء جيلي قاسى الذي قاسيتُ
لا أعرف شخصاً من شخوص المسرح التجريبي، أهين - باحترام - مثلما أُهِنْتُ.
هم تشردوا وجاعوا مثل سابقيهم.
بعضهم لم يجد، في القواميس، فارقاً بين القلائد والحبال.
وبعضهم لا يزال يهيم في وديان الدولة، محاولاً التوفيق بين رأس الألماني هيغل وطربوش التونسي عبد العزيز الثعالبي دون أمل وفير في التوصل إلى إدخال أحدهما في الآخر.
ومع ذلك فأنا لا أعرف أحداً منهم عاش الهموم السخيفة والهواجس الخطيرة التي عاشتني، ونجوت من مقاديرها بحيل وأعاجيبَ.. وقلّة انتباه أيضا.
من فرط محبة الناس وخوفهم على مصيري صرت ضيفاً نادراً على الحياة.
حتى البيت الذي وعدوني بكرائه فإنه موجود بباب قرطاجنة لكن:
في نهج «المشنقة «!
ما أقسى أن يحبّك الناس، إلى درجة الخوف عليك ومنك، دون أن يحسّوا بالحاجة على معرفة من أنت بالضبط.
- كم عدد الشرطة في هذا المكان!
- صحتُ في وجه القاضي، ذات يوم بورقيبي قائظ، وهم يمسكون بأسمالي ظانين أنني بشار بن برد بعينه.
- كم عدد المدنيين تحت هذه القبعات الرمادية اللمّاعة؟
،،
لا أشرع باباً للسيرة .. هنا
ولكنّي أتذكّر ملامح القارعة.