Friday  12/11/2010 Issue 13924

الجمعة 06 ذو الحجة 1431  العدد  13924

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

رغم اختلاف الناس في أفكارهم ومعتقداتهم وهواجسهم وقناعاتهم التي تحكم سلوكهم، إلا أنهم اتصفوا جميعاً بثنائية التملّك والكينونة، فكل الناس يحبون التملّك وكل الناس لهم أريحية العطاء والمشاركة، ومن الفرد إلى الجماعة ومن الجماعة إلى الدولة، صار حب التملّك ساطيًا على الكينونة وحاكمًا للتصرّف والسلوك ومنهاج حياة بغياب العقيدة الروحية القادرة على التحكم والسيطرة.

وقبل الاسترسال في هذا الطرح، أجد أن من المهم توضيح الفرق بين التملّك والكينونة، ولو بشكل مختصر, من خلال تعريف ماهية التملك وماهية الكينونة، فالتملك تعني الاقتناء والاستحواذ، أما الكينونة فتعني ملكة التضحية و أريحية العطاء، مثل الشيَم الرفيعة والمعرفة والتضحية، التي تدخل في ملكة الإنسان ولا يمتلكها بحس مادي إلا من خلال خروجها من ملكيته إلى الآخرين، فهي إذن عطاء لا اقتناء، وكل إنسان حامل لهاتين الصفتين ولكن تختلف في رجحان إحداهما على الأخرى من إنسان إلى آخر.

وعودة لصلب الموضوع، فقد لجأت دول عصرنا الحاضر بعد أن طحنتها الحروب والانقسامات والأنانية المفرطة إلى إنشاء هيئة تفصل بينها باسم هيئة الأمم المتحدة، لكن الإنسان بطبعه وسلوكه كما أسلفت، استغل قوته ونفوذه لاستعمالها لمصالحه وتحقيق نزعاته في التملّك والاستحواذ، فصارت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز وتفصّل الأمور فتمنح وتمنع، والقضية هنا ليست سياسية كما قد يبدو للبعض، ولكنها قراءة في فلسفة إنسانية حصرت الإنسان في ماديته وغلّبت ملكيته على كينونته، وأجد أن الإنسان لا يعادي الإنسان من أجل العداء لذاته، لأن العداء لا يكون إلا بين متضادين, ولكن متى كان الفهم للإنسان على أنه جاء للحياة بحثًا عن السعادة وأن أداوته في ذلك هي التملك واللذة لإشباع الذات، يصبح من الطبيعي أن يتضاد الإنسان مع الإنسان بدافع الأنانية المولّدة للحسد والحقد والكره وهي أدوات التضاد للجنس البشري، وهذا ما تنبه إليه المفكر الألماني (إريك فروم) الذي أطل على الدنيا عام 1900 م، وتوفي في عام 1979م، حين قال: إن حلمنا بأن نكون السادة الأحرار لحياتنا قد انتهى، وذلك عندما بدأنا ننتبه إلى أننا جميعاً قد أصبحنا تروسًا في الآلة البيروقراطية وأن الصناعة والحكومة وأجهزتهما الإعلامية هي التي تشكّل مشاعرنا وأفكارنا وأذواقنا وتتلاعب بها كما تريد. والحال نفسه يمكن أن يُقال في مجتمع الدول على كرة الأرض، فقد صارت الدول الأقوى غالبة ومتحكمة ومسيطرة وصارت الدول الأخريات مجرد تروس في آلات التطور والتقدم المادي.

لقد فشلت المذاهب الأيدلوجية الفكرية في إنقاذ الإنسان وتحرير إنسانيته، لخطأ الفهم الصحيح لطبيعة الإنسان، الذي لا يُرى إلا من خلال التملّك واللذة، وكأن هدف الحياة يقتصر فقط على تحقيق رغبات الإنسان، بالاستناد على فهم خاطئ لما قيل إنه ورد في كتاب «الإنجيل» الذي جاء فيه لفظ «الكسب الروحي»، إذ حوّرت هذه الروحية فيما بعد، بفعل ثورة الطبقة المتوسطة أثناء ما يسمى عصور التنوير ضد الكنيسة والارستقراطية الطبقية، إلى المادية، ومن ثم تحول فهم هذا اللفظ فكريًا إلى «الكسب المادي», حتى اعتبر الإنجليزي (توماس هوبز) أن حياة الإنسان من أجل نفسه فقط، وأن السعادة هي التقدم المطرد من شهوة إلى أخرى، بل وصل الأمر بمفكر آخر هو (لاميتري) إلى حد تحبيذ تعاطي المخدرات، حيث تعطي وهمًا بالسعادة، وراح الفرنسي (فرانسوا دي ساد) إلى اعتبار إشباع دوافع القسوة أمرًا مشروعًا، طالما هي رغبة موجودة لدى الإنسان تحتاج إشباعاً، وهذه الفلسفة الفكرية ربما تكشف السلوك المتوارث لبعض العساكر الغربيين اليوم، وجريمة سجن أبو غريب الشهيرة مثال لذلك في سلوك الفرد، وقتل المدنيين بالجملة أو حتى غزو الدول الأخرى بالشبهة مثال لذلك في سلوك الدول، بل يشهد بهذا التأثر حتى على مستوى الدول السيد (إريك فروم) نفسه بقوله وهو يحلّل الشخصية الغربية (فالتأريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي، على الرغم من اعتناق المسيحية، ليس إلا تاريخ الغزو والأبهة والتكبر والجشع، وأعظم قيمنا هي أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم) -كتاب الإنسان: الجوهر والمظهر صفحة 139-.

من هنا فإن النظر إلى الإنسان كعقل ورغبات فقط، وجعلها قاعدة يبنى عليها، بحثًا عن مخارج لتحقيق السعادة، تعمل على نزع الروحانية من النفس الإنسانية وتجعله عدائيًا مفترسًا في ذاتيته المادية، تجلت صورها في العالم الغربي اليوم وأدت به رغم تقدمه العلمي والتقني إلى إفلاس قيمي وروحي واضح وظاهر في التلذذ والافتخار بالقوة وقهر الآخرين، ورغم أن السيد (إريك فروم) وصل إلى هذا الاستنتاج عندما عبر عن ذلك بقوله (أعتقد أن في أعماق الكائن البشري حاجة عميقة للحب بحيث إن سلوك الذئاب يثقل على ضمائرنا ويشعرنا بإحساس بالذنب، ومن ثم فإن إيمانًا معلنًا، ولو مزعومًا بالحب، يخدر ضمائرنا ويخفف الشعور اللا واعي بالذنب، نتيجة خلو حياتنا تمامًا من الحب) في تعبير عن حاجة الإنسان إلى روحانية قادرة على (أنسنة) السلوك وتخليصه من عدوانيته، فيلجأ إلى البحث عن دين أو عقيدة إقرارًا منه بذلك بقوله (إن الحاجة الدينية مغروسة في الشروط الأساسية لوجود النوع الإنساني) لكنه راح يبحث في الأديان المسيحية واليهودية والبوذية لإثبات رؤيته، ولما لم يجدها، مضى يبحث عن عقيدة مثالية، والتي بقليل من التمعن لن تكون صالحة للإنسان، لأنها وببساطة ستخرجه من إنسانيته وتحوله إلى ملاك، أما البروفيسور (روجيه جارودي) أستاذ الفلسفة المادية فقد أضاف الدين الإسلامي في بحوثه الطويلة ليكتشف في النهاية حقيقة الإنسان، وبيقين وإيمان تام أسلم لله.

Hassan-Alyemni@hotmail.com
 

السلوك ترجمة الفكر - الإنسان والدولة
حسن اليمني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة