|
عاد الروائي الجزائري واسيني الأعرج إلى الساحة الأدبية بإصداره الجديد: البيت الأندلسي، عن دار الجمل بيروت، ودار الفضاء الحر، الجزائر، وهي الرواية التي أراد الكاتب من خلالها أن يعيد الاعتبار إلى ثقافة منسية في السجل التاريخي الوطني والإنساني: الثقافة الأندلسية في الجزائر، في جانبها العمراني الأكثر تمظهراً في المدينة القديمة أو القصبة السفلى. مع إدراج ذلك كله في سياق سردية تميز بها الكاتب في السنوات الأخيرة، تجمع بين التأريخ القصدي والتاريخ الافتراضي الذي تصنع منه الرواية مسارها ومخيالها الواسع. فأعطى بذلك حياة جميلة بكل لحظات إشراقها وألقها وانكسارها على مدى يقارب الخمسة القرون، من نهايات القرن السادس عشر، لحظة الطرد الجماعي، حتى زماننا الحاضر بكل توتراته وإخفاقاته وحرائقه. مما أعطى لهذه الرواية طابع النظرة الشمولية الملحمية، التي كثيراً ما افتقدتها الرواية العربية.
ركز واسيني في البيت الأندلسي على مسارين ليؤصل البعد الشمولي لنصه بحيث حوله إلى إيقونة ترى من كل زواياها، مسارات الحاضر بناسه وصراعاته الأكثر تدميرا والأكثر عمقا، من مشكلات الطبقات الجديدة في المجتمع، إلى مشكلات الهوية، ومعضلات الذاكرة في جانبها الأكثر تعقيدا: التاريخ، العمران والهندسة، التي استوحاها واسيني من أمكنة حقيقية في الجزائر مثل قصر خداوج العمياء في عمق القصبة، ولكن أيضا من أسفاره بين إسبانيا والجزائر إذ نعرف أن واسيني أقام مدة معينة في الكالا دي هناريس al-Kalà de Hanàres، في إسبانيا، في بيت سرفانتس، وأنجز كتابا فنيا عن هذه الإقامة سماه: على خطى سرفانتس في الجزائر، واختبر روائح الأمكنة في إحدى أكثر المدن الصغيرة تسامحا بعد مدينة طليطلة Tolède التي زارها واسيني أيضا، وتشبع بروائحها وعطر تسامحها الخفي. ألم يقل الروائي في العديد من حواراته وهو يكتب رواية كتاب الأمير وسراب الشرق، أن للأمكنة روائح توقظ الذاكرة؟ من هنا فالبيت الأندلسي ليس فقط عمراً آيلا إلى الزوال بسبب الإهمال المتقصد، ولكنه استعارة غنية عن جزائر خسرت موعداً رائعاً للمصالحة مع تاريخها وذاتها.
ينفتح البيت الأندلسي على لحظة حب وحلم، وينتهي بانطفاء الشعلة التي ظلت متقدة على مدار تجاوز الأربعة القرون، وعلى الكسورات المستحيلة الترميم، والأحقاد. وبين هاتين اللحظتين ينشأ المسار السردي في كليته ومعه يتفرع النص في كل غناه وتجلياته المليئة بألوان البحر وانعكاسات الشمس وصرخات المستأصلين من تربتهم وتاريخهم.
واسيني يعرف جيداً منذ كتاب الأمير على الأقل، أن الرواية أداة تحرير، كما قال في بحثه الذي قدمه قبل سنوات في ندوة الرواية والتاريخ في الدوحة (مارس 2005) إن الرواية وحدها تستطيع أن تكسر قداسة التاريخ الوهمية. تهويه من يقينياته وتمنحه حياة أخرى يفتح فيها أبوابه الموصدة. بهذه النظرة الحرة، والنقدية في الآن نفسه، اشتغل واسيني في البيت الأندلسي، على الموروث العمراني الذي اختصره في استعارة حكائية لبيت أندلسي قديم، وحقيقي في بعض ملامحه على الأقل، عبرت من خلاله عائلات وأمم وأجيال متعاقبة.
يعود أصل البيت الأندلسي كما تقدمه الرواية، إلى غاليليو أو سيدي أحمد بن خليل، وزوجته سلطانة ألونسو التي عشقها وحلمت أن يكون لها بيت كالذي رأته على هضاب غرناطة في يوم من الأيام. هي الهضاب نفسها التي زفر فيها محمد الصغير، أبو عبدالله، آخر ملوك بني الأحمر، زفرته الأخيرة، فكان لها ذلك بعد الكثير من القسوة والمنافي الأندلسية المتكررة والمآسي الدينية والثقافية، لينتهي البيت من خلال السرد الروائي، إلى مراد باسطا، وهو الشخصية الرئيسية التي ورثت البيت وما يرتبط به، من ذلك، المخطوطة التي تعود إلى جده غاليليو، أو سيدي أحمد بن خليل الروخو. وقد وجد واسيني في المخطوطة تيميته الكتابية التي أوصل من خلالها جرائم الطرد الجماعي للموريسكيين وطبيعة الصراعات الدينية في القرن السادس عشر، كما استعملها كمطية فنية، فتحت أمامه بوابات التاريخ الأندلسي على مصراعيه وتاريخ محاكم التفتيش المقدس، والتاريخ التركي في الجزائر الذي كان مزيجاً غريباً من الحب والكراهية، البناء والتدمير، الشهامة والانحطاط، الوفاء والخيانة. لأول مرة تنشئ الرواية تاريخها الذي يشكل تياراً مضاداً للتاريخ الرسمي الذي لا يرى في تاريخ الفترة العثمانية إلا ما يروق له.
وهذه النظرة مارسها واسيني حتى على تاريخ الفتح الأندلسي بحيث ينتقد أيضا طارق بن زياد، وموسى بن نصير وصقر قريش وهشاشة الأنظمة التي نشأت في سياق هذا التاريخ، ومنها ملوك الطوائف. بهذا المعنى ليست المخطوطة مجرد خزان للمعلومات، ولكنها أكثر من ذلك كله: التاريخ الشعبي الذي لم يعط له حق التعبير الحر. وجهة النظر الذاتية في تاريخ لم يجد إلا قناة تعبيرية واحدة ووحيدة، هي القناة الرسمية.
وقد تعمد الكاتب في الشطر التاريخي للرواية التركيز -وبكثير من الدقة والتفصيل- على رحلة هذه المخطوطة النادرة، التي كانت ترسم تاريخ عائلة من الموريسكيين الذين فروا بهويتهم وثقافتهم من الأندلس إلى الجزائر قبل أكثر من أربعة قرون. كتبوا أجزاء كبيرة منها، بلغة الخيميادو التي اختارها هؤلاء لتدوين نصوصهم وتاريخهم وحتى النص القرآني وبعض الأحاديث النبوية الشريفة. لأن لغة الخيميادو كانت سرهم وجسرهم نحو هويتهم المقهورة وتاريخهم. فكان باسطاً آخر وصي على المخطوطة، وهو راعيها وكذا الحارس لها من الاندثار والموت الذي يتهددها من كل جانب. عمل بالوصية إلى آخر لحظة في حياته وكأنها مسؤوليته الحياتية الأولى والأخيرة: «لا تتركوا البيت الأندلسي ولو عشتم فيه خدما» وهي الفكرة التي حرص الكاتب على إبرازها ومشاركة أصحابها في قناعتها، فتولى بدوره مهمة التأكيد على ضرورة الوفاء للهوية الثقافية في بعدها الأكثر إنسانية والأكثر اتساعا، بعد أن شكلت ماسيكا مرافقته الدائمة امتداده الطبيعي. فقد ظلت وجهه الخفي الأكثر حيوية، كما حدث لدون كيخوتي مع مرافقه الدائم سانشو دي بانسا. لا غرابة في ذلك، فهذه الرواية الإنسانية العظيمة، مع ألف ليلة وليلة، تشكل اللاوعي الكتابي لواسيني.
يسترجع الكاتب في هذه الرواية مختلف المراحل والأحداث التي عرفها «البيت الأندلسي». وبعيداً عن التأريخ الذي ليس من اختصاصه كما يذكّر قراءه دائما. يعود واسيني مع أبطال روايته الذين يخيل إليك وأنت تركض وراء حيواتهم الصعبة، أنه عايشهم واستمع إلى حكاياتهم وأحلامهم وهمومهم بكل تفاصيلها، إلى أهم الأحداث التي عرفها البيت وعاشها بعنف دون أن تتمكن أية قوة من محوه واندثاره، وكيف انتهك القرصان دالي مامي البيت بعد وفاة غاليليو وزوجته، وكيف اغتصب مارينا التي تاهت في البحر بعد أن ظلت تحلم بعودة مستحيلة، قبل أن يشتري البيت حسن الخزناجي لابنته خداوج العمياء وقراره بقبول عودة العائلة إلى هذا البيت، ونكاد لا نعرف مساحة التاريخ من مساحة المتخيل، بل يندمجان في كلية تشكل جسد النص، ثم كيف حول «البيت» خلال فترة الاستعمار الفرنسي إلى بلدية، ثم إلى إقامة لنابليون الثالث وزوجته. ليتحول بعد الاستقلال إلى مساحة للغناء الأندلسي مستعيداً حقيقته الجوهرية، قبل أن يبتذل ذلك التاريخ الكبير فيتحول البيت إلى حانة ومكاناً لالتقاء أصحاب الصفقات والقتلة الصغار والكبار، قبل الانتهاء إلى قرار إزالته وبناء برج عال من مائة طابق، في مكانه. على الرغم من أن آخر طلب لمراد باسطا كان هو تحويله، قبل موته، هو تحويل البيت الأندلسي إلى مكان للموسيقى والفنون. إلا أن البلدية المرتبطة بمصالح جد معقدة مع أصحاب المال، تصر على تهديمه لربح مساحة الأرض الواسعة. وهي الفكرة التي تحيل بالضرورة إلى سؤال الحداثة المعطوبة التي لم تربح لا عملة التحديث كما هو الحال في أوروبا مثلا، ولا التراث في بعده الأكثر إنسانية، فبقيت على حافتين انتهتا إلى الانسداد الكلي والموت الحتمي المتلخص في الحرق والهدم الذي يطال البيت الأندلسي، وكأن واسيني يريد أن يثير انتباهنا إلى مآلاتنا القادمة في عالم لا يرحم الضعيف. وهو قرع لأجراس الخطر Il tire la sonnette d.alarme أكثر منه نظرة مأسوية. وكأن البلاد العربية أخفقت كليا في المصالحة مع ماضيها وحاضرها وميراثها الإنساني. مما يجعلنا أقرب من الفكرة التي تقول بأن هذا النص في جوهره بني على المقام الأندلسي المعروف: رمل الماية، وهو مقام حنيني عميق يستدعي في صعوده لحظات التجلي، ولكنه في لحظات نزوله تشده الحنينية الشبيهة بالانكسار. الغريب أن رواية البيت الأندلسي وإن لم تذكر هذا المقام حرفيا فقد بنيت عليه مثلما كان الحال في رواية سابقة لواسيني هي الليلة السابعة بعد الألف، رمل الماية. ما يقرب ذلك هو التجاء واسيني في العناوين الفرعية إلى الإحالات الموسيقية الأندلسية. فصول البيت الأندلسي لم تبتعد أبداً عن بنية الموسيقى الأندلسية التي نحت منها واسيني عناوين فصول روايته، التي بدأها بالاستخبار أي الافتتاحية الموسيقية، الذي ربطه الكاتب ببطلة العمل ماسيكا، إلى التوشية التي تعني البدايات الأنيقة والزخرفية، إلى النوبة بمقاماتها المختلفة، والوصلة التي تشكل فقرة تبدو معزولة في الإيقاع العام لحريتها، ولكنها رابط حيوي بين مختلف فصول النص، أي المقطوعة الموسيقية الأندلسية في كليتها. وسهل ذلك كله، بالاستعانة بالفلاش باك أو الاسترجاع على الغوص في الأزمنة الغابرة والبعيدة بدون قيود ولا افتعال. فكان واسيني ينقل القارئ بين الأحداث وشخوص الرواية بسلاسة دون اعتبار للزمن الذي تجاوز أربعة قرون ودون أن يكلف القارئ مشقة السفر عبر الزمن، وهو ما أعطى صورة متكاملة تجمع في وحدة عضوية كبيرة بين الماضي الحي والحاضر الصعب.
حورية صياد