الحمد لله رب العالمين، نشهد في أيام دهرنا معالم اصطفاء الله عز وجل للزمان والمكان، فميز الله تعالى أياماً عن غيرها، مع أنه سبحانه وتعالى هو رب كل الأيام والليالي، كما ميز الله عز وجل أماكن ومواضع عن غيرها، فميز تعالى مكة المكرمة زادها الله تعظيماً وحرمة وحفظاً، وميز المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلوات والتسليم، وميز بيت القدس والأرض المباركة حوله، بل امتد التمييز والاصطفاء إلى بقاع في المكان الواحد كفضل المساجد على ما لاصقها من أبنية ودور، فلمَ كل مظاهر التمييز تلك؟ وما هي الحكمة في اصطفاء الله تعالى للزمان أو المكان؟
إن المقصود بمظاهر الاصطفاء والتمييز هو الإنسان المخاطب بها، وانظر وتأمل في مدى ارتباط مظاهر الاصطفاء تلك بالإنسان ذاته، فالبيت يرفع قواعده سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وزمزم تتفجر تحت قدمي سيدنا إسماعيل عليه السلام، والسعي بين الصفا والمروة من فعل سيدتنا هاجر عليها السلام، ورمي الجمرات من أعمال الثلاثة معاً، وهكذا الأمر في كل مظاهر الاصطفاء، وكأن الحكمة أن تمييز المكان والزمان مرتبط بك أنت يا إنسان، فإن فقهت كيف تتعامل مع مكانتها ارتقيت لمرتبة تعلو الزمان والمكان، وإن أنت غفلت عنها وعن اغتنام ما بها من اصطفاء وفضل سقطت والعياذ بالله عن تلك الرتبة.
فإذا اندرست معالم الاصطفاء تلك في نفوس المخاطبين بها فهماً وإدراكاً واغتناماً، فكأني أنظر إلى ذي السويقتين من الحبشة يخرب الكعبة، يسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ويضرب عليها بمسحاته ومعوله (مسند أحمد 2-220 برقم 7052)، وكأني أرى راعيين يخرجان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشاً حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما (صحيح البخاري 3-21 برقم 1874). فالمزية التي كانت للمكان ارتبطت بفقه وإدراك الإنسان لتلك المزية، فإن لم يوجد من المخاطبين من يدركها فهماً ووعياً واغتناماً انعدمت قيمة المكان.
وكذلك الأمر بالقياس على اصطفاء الزمان، فلم تكن لشهر رمضان على سبيل المثال ثمة مزية ولا اصطفاء إلا بعد أن كتب الله تعالى صيامه وأعلمنا رسوله عليه الصلاة والسلام فضل قيامه، إذ لم يكن له من اسمه قبل البعثة النبوية سوى الرمضاء أي الحر الشديد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأشهر الحرم، فلأن العرب كانوا يعظمون تلك الأشهر الحرم، فكانت لها قيمة تستند إلى وجود أناس يؤمنون بهذه المكانة والتحريم، فإذا انعدم من البشر من يؤمن بقيمة تميز الزمان اندرست بالتالي معالم الاصطفاء منها.
فإذا اتفقنا على هذه النقطة، وأن الإنسان هو محور ومقصد وغاية اصطفاء الزمان والمكان خطاباً وفهماً وإدراكاً واغتناماً، ينبغي علينا أن نرجع إلى فهم حقيقة الاصطفاء في الليالي العشر التي نحن في بركة اصطفائها، وأن قيمتها الحقة بالنسبة لك أنت على قدر انتفاعك منها وبها.
فالأيام والليالي التي نحيا بروحانياتها من أعظم أيام وليالي الاصطفاء في الزمان والمكان، ففي الحديث الصحيح: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء (مسند أحمد 1-224 برقم 1968)، فإلى هذا الحد ارتفعت قيمة تلك الأيام والليالي مع ما فهمه ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من أن الجهاد ذروة سنام الإسلام؟ وقد ورد في شعب الإيمان عن أحد الصحابة قوله: «اختار الله عز وجل البلاد، فأحب البلدان إلى الله عز وجل البلد الحرام، واختار الله الزمان فأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله تعالى العشر الأولى منه» (شعب الإيمان 5-302 برقم 3465)
فما قيمة الأمر عندك أنت أيها المخاطب به؟ ذلك لأن قيمة المؤمن ومكانته عند ربه عز وجل تكون على قدر معرفته ومراعاته واغتنامه لقيمة تلك الأيام والليالي التي ميزها الله تعالى، وانظر حال من يأتيه التنبيه من الله عز وجل ورسوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام باصطفاء وميزة تلك الأيام، ثم لا يستشعر لها فضلاً وإنما يجعلها تمر عليه كغيرها من الأيام والليالي؟ إن تجاهل الإنسان لمبدأ الاصطفاء الذي أبرزه الله تعالى للمكان والزمان إنما هو نزعة سيئة في نفسه، قريبة من نزعة إبليس الذي كان رفضه لمبدأ الاصطفاء سبب شقائه، وعليه أن يبادر بالتخلص منها واغتنام لحظات الاصطفاء التي نحياها في العشر الأولى من ذي الحجة وغيرها.
ومن ثم يأتي السؤال حول أين إدراكنا لتلك الليالي العشر وماذا عن فهمنا واغتنامنا لها؟ وقد جاء في بعض الروايات أن صوم يوم واحد من أيامها وهو يوم عرفة «يكفر السنة الماضية والباقية» (صحيح مسلم 3-167 برقم 2804 مسند أحمد 5-8 برقم،2262 سنن أبي داوود 3-297 برقم 2427)، بل وكان عدد من الصحابة والتابعين يحرصون على صيام التسع الأولى من ذوي الحجة طلباً لهذا الفضل العظيم، كما قد ورد عند الترمذي وابن ماجة «أن قيام ليلة منها بقيام ليلة القدر» (الترمذي 3-13 برقم 758 وابن ماجة 1-551 برقم 1728) ويؤخذ في فضائل الأعمال بالضعيف إن لم يشتد ضعفه، فهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
ذلك لأن موسم الحج ليس وقفاً لمن وفقهم الله تعالى للوقوف بساحة فضله ورضوانه بمكة المكرمة، بل يتسع الشهر ببركته ليشمل كل المخاطبين به بالإكثار من الذكر والتلاوة والتهليل والتحميد والتكبير، وقد يكتب الله لك أجر الحج والعمرة وأنت في مكانك، ولك أن تتأمل قول نبيك عليه الصلاة والسلام لما قفل من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر» (صحيح البخاري 6-8 برقم 4423). أي أن قلوبهم كانت بالجهاد لكن لا تسمح لهم إمكاناتهم بذلك.
ولهذا فقد يكتبنا الله عز وجل بفضله ومنته من الحجيج إذا ما تعلقت قلوبنا مع أهل الموسم، عسى أن يكتبنا تعالى في عداد حجاج بيته الحرام في العام المقبل بإذن الله تعالى، فاللهم بلغنا حج بيتك الحرام وزيارة نبيك عليه أفضل الصلاة والسلام برحمتك يا أرحم الراحمين.