يعود مسمى مبشر الحاج أو «البشير» إلى بدايات العهد الإسلامي، فهو الذي يبشر الأهالي بسلامة الحجاج وقرب عودتهم إليهم، وقد ورد في سورة يوسف كلمة البشير في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }يوسف96

وبما أننا نعيش هذه الأيام المباركة وهي عشر ذي الحجة، والحجيج قد اكتمل وصولهم إلى مكة المكرمة من كل حدب وصوب، وددت في هذه المقالة التعريف بوظيفة كانت تُعد من أهم الوظائف في ذلك الوقت وخاصة في موسم الحج فقط، حيث يبدأ عمله عند بداية الحج وينتهي بنهاية موسم الحج ألا وهي وظيفة: مبشر الحاج.

وقد رسمت لنا هذه الوظيفة الأسلوب الإداري المميز الذي كان حاضراً في الشخصية الإسلامية آنذاك، حيث كانت شخصية مبشر الحاج أنموذجا رائعاً في تنظيم العملية الإدارية.

وعندما كانت قوافل الحجيج تنطلق من المدن الإسلامية إلى مكة كان يرافقها أحد المكلفين بهذه المهمة، وأثناء انتهاء مراسم الحج وتحديداً في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، يبدأ المبشر بالعودة قبل الحجيج، ويتجه إلى بلده ليبشر السلطان أو الأمير بسلامة الحجاج، ومن ثم يخبر الأهالي بسلامة ذويهم ومتى عودتهم، ويطمئنهم على صحتهم وأوضاعهم، ويوزع الرسائل على أهالي وأقارب الحجاج.

وقد تطور مفهوم وظيفة مبشر الحاج عبر العصور الإسلامية، وخاصة في العصر المملوكي والعهد العثماني، أما في فترة العصر الأيوبي فقد كان دور هذه الوظيفة محدوداً جداً لأن طريق الحج البري من الشام إلى الحجاز كان مقفلاً؛ بسبب الحرب الدائرة بين المسلمين والصليبيين في بلاد الشام، إلا في بعض فترات السلم التي قد تحدث بين المسلمين والصليبين فتبدأ قوافل الحجيج باستخدام الطريق البري من الشام إلى مكة، أما إذا كانت الحروب مستمرة بينهم فإن أغلب الحجاج القادمين من المغرب العربي والأندلس كانوا يحجون إلى مكة عن طريق البحر بالركوب من ميناء عيذاب بمصر، ويخاطرون بحياتهم في أهوال البحار حتى يصلون إلى مدينة جدة، ولعل كتاب (الرحلة) لابن جبير الذي حج سنة 581هـ-1184م يوضح تلك المخاطر والأهوال، أما أهل الشام فيكون طريق حجهم عبر الموصل والعراق.

أما في الفترة المملوكية وبعد استعادة المماليك أغلب المدن الشامية أصبح الطريق البري بين بلاد الشام والحجاز متاحاً للناس، وبعد طرد الصليبيين من بلاد الشام نهائياً سنة690هـ - 1291م أصبح الحجاج في أمن وآمان أثناء ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها.

وكان السلاطين المماليك يحرصون كل الحرص في تجهيز (المحمل المصري)، و(المحمل الشامي) عند التوجه للحج وذلك بتوفير كل ما يحتاجه المحمل من طعام وحرس ودواب وغيره، ويُعين السلطان على هذا المحمل أميراً يثق به يسمى (أمير الحاج).

وكان مبشر الحاج يرافق هذا المحمل أثناء توجهه إلى مكة، ويتم اختيار المبشر من الرجال الثقاة أيضاً؛ لأنه يُعد عين السلطان التي يرى بها أثناء الرحلة إلى مكة والعودة منها، حيث يخبره بكل ما يراه ويسمعه، ويخبره أيضاً عن معاملة أمير الحاج للحجاج، فهذه المهام تُعد مهام رئيسة يكلف بها مبشر الحاج.

ومن الأخبار التي ينقلها مبشر الحاج إلى السلطان أخبار الحج، ومشاعر الحجيج وسلامتهم وما صادفهم من متاعب، وينقل أخبار الوفيات من الأعلام والمشايخ الذين بمكة إلى السلطان، وأخبار مكة، والحوادث التي حصلت أثناء الحج، وكذلك غلاء الأسعار أو رخصها في مكة أثناء موسم الحج.

ولأهمية دور المبشر فقد كان الأهالي ينتظرونه على شوق حتى يصل ليطمئنهم على ذويهم، وقد تواجهه بعض المشاكل أثناء عودته، لأنه يعود بمفرده ليس معه سوى دليلٍ يرشده إلى الطريق، ولهذا يكون عرضة سهلة للنهب والسلب، بسبب عدم وجود قوة تحميه من قطاع الطرق، فإذا تم اعتراضه وسلب ما معه وحجزه، فإن وصوله إلى مصر أو الشام يتأخر أياماً فينزعج السلطان وأهالي الحجاج وتكثر الأراجيف والأقاويل في سبب تأخره، ويصبح الناس في قلق دائم وخوف مستمر على أهاليهم وأقاربهم الذين بمكة، أما إذا وصل في الوقت المتوقع له وأخبرهم بطيب أحوالهم وقرب عودتهم، فإن الناس يبدأون بتزيين بيوتهم استعداداً لاستقبال الحجيج فرحة بهم وبسلامتهم.

وكان المبشر يتلقى الهدايا والخلع من السلطان والأهالي إذا عاد إلى مصر أو دمشق مبشراً بسلامة الحجاج ومبشراً بعودتهم سالمين من أهوال الطرق والأمراض. وإذا كانت زوجة السلطان أو أحد أبنائه من ضمن الحجيج فإن المبشر يحصل على هدايا قيمة وثمينة أثناء عودته إلى القاهرة مبشراً السلطان بسلامة ابنه أو زوجته وذلك من السلطان نفسه، أومن الوزراء والأمراء الذين يُظهرون فرحهم وسرورهم بسلامة ابن السلطان أو زوجته.

وقد وردت إشارات لمبشر الحاج في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ولكنها كانت بطريقة مختلفة عما كانت عليه في العصور السابقة حيث كان هؤلاء المبشرون يخرجون خارج المدن ينتظرون قدوم الحجاج من مكة المكرمة ومن ثم يسبقونهم إلى بيوتهم يبشرون أهاليهم بقدومهم، وقد يحصل هؤلاء المبشرون على بعض الأُعطيات أو الهدايا البسيطة من الأهالي، أو ينتظر هؤلاء المبشرون وصول الحجاج إلى أسرهم ليحصلون على بعض الهدايا التي قدموا بها من مكة.

وقد اختلف الزمن وأصبحت وظيفة مبشر الحاج من الماضي، ليس لها وجود الآن بسبب تطور المواصلات والاتصالات، وأن العالم أصبح قرية صغيرة، حيث سهُل التنقل والاتصال من جميع بلاد العالم إلى مكة المكرمة وأصبحت الأمور ميسرة على الحجيج أثناء ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها، ولذلك اندثرت هذه الوظيفة إلى الأبد.