لم يكن التساؤل حول كيفية وإمكانية استمرار الصداقات الحقيقية ليمر مرّ الكرام، بعد أن صارت الإجابة عليه أو التوصل إليها أملاً نستمع إليه في لقاءاتنا واجتماعاتنا وأحاديثنا، وبعد أن أصبح البحث عن الخل الوفي بحثاً عن إبرة في كومة من القش أو نوعاً من خيالات اليقظة، التي يتعايش معها الناس الآن مهما اختلفت أعمارهم بفعل ضغط ظروفهم، وتبخّر نماذج الصداقات الحقيقية والقوية من حياتهم.
ولم تكن قضية الصداقات وليدة عالمنا المعاصر، فقد حفلت بها القضايا الاجتماعية في الماضي، وامتلأت بها نصائح المربين في مختلف العصور والدهور، حتى جاء الإسلام ليعلي شأن اختيار الأصدقاء وانتقاء الصديق، فالمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، ومثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، ونماذج الحث على اختيار الأصدقاء كثيرة ومتعدّدة، والهدف منها إقامة الصداقة على أسس تسمح لها بالاستمرار والديمومة لتصبح نموذجاً في عالم الصداقات.
غير أن الصداقات عندما تبدأ كثيراً ما يشوبها الزيف، حيث يظهر الصديق أفضل صفاته وكريم شمائله فتتشرّب محبته لدى صديقه، فيقتنع به وينزله في نفسه منزل الأخ الذي لم تلده أمه، حتى إذا استمرت الصداقة، وسارت مسيرة المصالح الشخصية، وتوظّفت أدواتها لتحقيق المآرب الدنيوية تزعزت أسسها، واضمحل بريقها، وخفت ضوؤها وأخذ في الذبول، وأخذ الزيف يظهر أنيابه ويسحب غطاءه، وربما انقلبت الصداقات إلى عداوات وهذا مكمن الخطر الذي حفز إلى البعض أن يقول:
احذر عدوك مرة
واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق
فكان أعلم بالمضرة
إن مثل هذه النماذج التي نسمع عنها وازدحمت بها قصص المنتديات، لا يجب أن تفرض نفسها على سلوكنا أو تغيّر من حرصنا على إقامة الصداقات القوية المتينة واستمرارها، فالعلاقات بين الناس أشبه بالغرس الذي ننميه فنحسن اختيار بذرته أو شتلته ثم نتعهدها بالري والعناية ونحميها من تقلّبات المناخ المزدحم بكثير من المتغيّرات والمؤثّرات، فنحمي الصداقة من رياح الفتن، ومن قسوة متغيّرات الحياة، وحتى يتم ذلك فلا بد أن تسود الصراحة والمصارحة بين الصداقات فلا نسمح بأن يسيطر الكذب على مسيرتها أو الزيف على جوانبها، فالصداقات أساسها الصدق وما أشد الشبه بين الصدق والصديق، وكذلك بين الرفق والرفيق.
وحتى تستمر قوة الصداقات فإنه بجانب الصدق والمصارحة بين الأصدقاء فهم في حاجة أيضاً إلى تنمية العلاقات بينهم لتخرج من نطاق الصداقة إلى دائرة الأخوة التي قال فيها سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فيسعى كل صاحب نحو مصلحة صاحبه، ويحرص على سعادته في غير معصية، فتتلاقى الصداقات على قوة الصلة ومتانة العلاقة ونقاء الضمير وصفاء النوايا والسعي نحو الخير المشترك فلا يصبح أحد الأطراف في موقف المانح المتفاني في صداقته، معطاء في أخلاقه وأفعاله، بينما الطرف الآخر يظل يقطف ثمار الصداقة أو ما يدّعيه بأنه صداقة ولكنها مسخ من العلاقة التي تقوم على المصالح الزائفة والفانية التي تضعضع الصداقات، بل تضر بها وتصيبها في مقتل، لأنها ترتبط بتزييف العلاقة وفساد الود بين الأصدقاء والتكلّف فيه، وصدق قول القائل:
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجيء تكلفا
وهكذا فإن قوة الصداقات تقوم على صفو الود بين الأصدقاء الذي يحيط الصداقة بسياج يحميها من غدر الأيام ومتغيّرات طبائع الإنسان، فهل نحن قادرون على ذلك؟ سؤال إجابته متروكة لكل من يشكو من غدر صديق أو هجره في هذه الأيام التي طغت فيها المصلحة الشخصية والذاتية والأنانية.
- وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام (سابقاً)