أحياناً، وفي لحظات استرخاء وتأمُّل، قد ينتقد المرء بعض سلوكه وتصرفاته، كأيّ ّإنسان على هذه الأرض، فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى، بل ومن خلال عملية التأمُّل ونقد الذات..
..يمكن تصحيح وإصلاح بعض السلوكيات والتصرفات وتطويرها نحو الأفضل، ومن الفرد إلى المجتمع، ربما تكون لحظة التأمُّل أكثر قبولاً وإقناعاً.
لنتأمّل إحدى الصور المألوفة، وفي صالة مستأجرة، الجميع بين صامت مكتفٍ بتحريك سويداء عينية يميناً ويساراً، وآخر يتحدث إلى جارة بصوت خافت والكل في حالة من الرسمية المصنّعة، منتظراً لحظة العشاء، توقاً ورغبة في التحرُّر والانطلاق إلى طبيعة النفس والسلوك، وكأنّ اجتماع الأهل والأحبة بمثابة سجن للجسد وضبط للحركة، ومع هذا فإنّ التحوُّل إلى صالة الطعام، والتي تأتي عادة بعد مناداة المضيف لكبار الضيوف، سواء في السن أو الأرصدة المالية أو المنافع المحتملة، صارت هي قضية بحد ذاتها، فقد حرصنا على بقاء الكرم العربي كخصلة حميدة، ومع هذا استلفنا من الغرب اقتصادهم ضد الإسراف بتعدُّد الأطباق والمشهيات، من خلال توزيعها في أوانٍ صغيرة متتابعة, تلزم الضيوف بالاصطفاف في صفوف خلف بعضهم، وليغرف كلٌ منهم وفي صحن صغير يمسكه بيد ويغرف باليد الأخرى، حتى متى وجد أنّ صحنه قد امتلأ بما سحر عينيه، مال إلى إحدى الطاولات، وجلس يترقّب في داخل نفسه أن يجلس بجانبه من يأنس لمحادثته ليطرد حرجه وتوجُّسه، وكأنه داخل أحد المطاعم، ولأننا نعرف أنّ الرز واللحم هو أساس الغداء أو العشاء، فإنّ التورُّط بجمع «التبولة» على الحمص على قطعتين من فردة خس، بالإضافة إلى بصلتين مقليّتين مع قطعة من سمك الكنعد المثلج، لا تكفي في الغالب لإيقاظ البطن أو حثّ المعدة على عجن ما سقط فيها، فإنّ العودة مرة أخرى للاصطفاف في الطابور للبحث عن الرز واللحم، قد يسلّط الأعين هنا وهناك، لذا فإنّ اختيار التوجُّه إلى طاولة الحلويات بحثاً عن فرصة للعثور على ما يعوّض ما فات ربما يكون هو الخيار المرغوب، وإلاّ فقد حان وقت شكر المضيف والاتجاه إلى السيارة للبحث عن أقرب مطعم.
ومع هذا فما زال الرجال في مجتمعنا أقل اندفاعاً من النساء أو الإناث في الركض واللحاق بالمستجدات، لولا أنّ النساء بطبيعة مكرهنّ أو دهائهنّ، يجعلن تقديم «الشوكولا» والمعجنات والفطائر قبل العشاء بوقت طويل، وكأنهنّ يمهدن أمعاءهنّ للوجبات الدسمة قبل الفجر، ومع أنهن يتفنن ويزدن في تشكيلات الأطباق ويضفن عليه من الأشكال المجملة، إلاّ أنهن يحرصن على توفير الوجبات الشعبية مثل المرقوق والقرصان والجريش وبالنكهة السعودية المحلية، ليس لأنهن راغبات فيه، ولكن ليتفرّغن إلى تذوُّق كل الأطباق المعروضة، بعد أن يلهين كبيرات السن في اختبار طعم المرقوق والجريش والقرصان.
هل نحن في طور بناء عادات وتقاليد جديدة، تمازج بين الحضارات والثقافات الأخرى؟ ربما كان ذلك صحيحاً، ومن يدري، فقد نرتقي بطبيعة الكرم ونجعل العشاء مفتوحاً من البداية وحتى آخر الحفل، ليدخل الضيف ويصافح دون تقبيل أنف أو هز رقبة، مع المضيفين والمعارف من الأهل والأصحاب، ثم يتجه نحو صالة العشاء، ليأكل بهدوء وطمأنينة، ثم يعود إلى صالة الضيوف وقد أطفأ مؤشر درجة الانتظار, وصار خالياً من رتابته ومقبلاً على تفريغ شحنات النشويات والسكريات والدهون، بفتح منافذ للتواصل والتقارب والانسجام.