الجزيرة - الرياض:
«أزمة وتساؤلات مشروعة»
الطيران الاقتصادي مفهوم استثماري حديث في مجال قطاع الطيران، ويعني بوجيز العبارة الطيران منخفض التكلفة في مقابل مزايا وخدمات أقل من مثيلاتها في الطيران العادي، أو غير الاقتصادي (تذاكر رخيصة وخدمات محدودة).
بدأت تجارب وتطبيقات الطيران الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو ستين عاماً. وتحديداً في عام 1949م. ثمَّ انتقلت تطبيقاته إلى بقية دول العالم. بدءاً من أوروبا في عام 1990م، ثمَّ آسيا في عام 2000م. ويبلغ عدد شركات الطيران الاقتصادي حالياً، على مستوى المنظومة العالمية أكثر من (210) شركات.
أمَّا التَّجارب والتطبيقات العربية فقد كانت متأخرة نسبياً، وكانت بداية الانطلاقة في عام 2003م عبر شركة العربية للطيران في الشارقة. ثمَّ تلا ذلك إنشاء العديد من شركات الطيران الاقتصادية.
والحال كذلك بما يخص التَّجربة السعودية في هذا المجال، فقد كانت هي الأخرى متأخرة نسبياً عن مثيلاتها العربية. إذ بدأت تطبيقاتها في عام 2007م عبر شركتي: سما وناس.
وحين انطلقت التجربة السعودية انطلقت معها آمال جماهيرية ببداية عصر جديد في سوق الطيران السعودي، والطيران الداخلي على وجه الخصوص، يتاح من خلاله للقطاع الخاص الوطني فرص الاستثمار والتوظيف، في هذا القطاع الاقتصادي والتجاري والخدمي المهم. ويسمح في الوقت نفسه بإيجاد بيئة تنافسية مُحفِّزة، تحتضن العديد من المؤسسات والشركات الناقلة، بما ينعكس إيجاباً على نوعية المنتجات والخدمات والأسعار المقدمة لعموم المسافرين أو المتطلعين إلى السفر. وهو مناخ استثماري إيجابي، سوف يسهم بالتأكيد في معالجة جذرية لحالات الاختناق الشديد نسبياً التي تواجه حركة النقل الجوي الداخلي بوضعها الراهن. خصوصاً في بلدٍ مثل المملكة بمساحته الجغرافية الشاسعة، وبُعد المسافات بين مدنه ومحافظاته. وحين تكون البدائل غير متاحة، باستثناء استخدام المركبات والتنقل عبر الطرق والمسارات البرية، وهذا الخيار صعبٌ وشاقٌ، في ظل التَّدني في مستوى وكفاءة منظومته الخدمية واللوجستية. بما يجعل من السفر عبر بعض مساراته، قطعة من المعاناة والمشقة، تبدو ماثلة أكثر بالنسبة للعائلات والأطفال وكبار السن.
ومع الأسف الشديد فقد تمخَّض الجبل فولد فأراً، وتبددت الآمال والطموحات بهذا العصر الموعود، والذي ظهرت أنواره الزائفة بانطلاقة شركتي ناس وسما للطيران الاقتصادي. إذ لم يمض من الوقت إلا قليل حتى بدأت المتاعب التشغيلية تواجه هاتين الشركتين. وما لبثت هذه المتاعب أن زادت وتيرتها بمرور الأيام والشهور القليلة الماضية، حتى أفضت بصورة لم يتوقعها الكثير منا إلى إعلان شركة سما إفلاسها، وإغلاق مكاتبها، وتسريح موظفيها، وتحولت في لحظة زمنية مؤلمة إلى أثرٍ بعد عين. وأمَّا شركة ناس فلا تزال تعمل، ولكن بسياسات تشغيلية وتسعيرية جديدة، أخذت تبعدها تدريجياً عن دائرة الطيران الاقتصادي. من أبرز ملامح هذه السياسات: تقليص خطوطها الداخلية، وزيادة عالية نسبياً في الرسوم المفروضة على تذكرة السفر على خطوطها داخل مدن المملكة ومحافظاتها، تجاوزت بها القيمة الفعلية للتذكرة التي تصدرها الخطوط السعودية. بلْه عمدت إلى فرض رسوم جديدة نظير بعض الخدمات المساندة البسيطة، مثل «رسوم حجز المقاعد». هذا من جهة. ومن جهة أخرى أخذت تطبق بقسوة نظام إلغاء الرحلات المجدولة، دون اعتبار أو احترام لعملائها، والآثار النفسية المترتبة على مثل هذه الإلغاءات الفجَّة، التي لا تكترث بمصالح الناس، وارتباطاتهم الرسمية والاجتماعية. كل هذه التطورات السلبية تدفع بنا جميعاً إلى طرح التساؤلات المشروعة التالية:
عن أسباب ومسببات الفشل في إيجاد بيئة استثمارية، بمعايير مهنية وتنظيمية عالية، تستوعب مشروعات الاستثمار والتوظيف في سوق الطيران الداخلي. وتكسر إلى حدٍ ما احتكار الخطوط الجوية السعودية لأجوائه ومنافذه. وما هي حدود مسؤولية هيئة الطيران المدني، في استمرار هذه الإشكالية خلال الزمن. وفشلها بالتالي في تنمية هذا القطاع الرئيس، ومعالجة مشكلاته المزمنة. أمام هذه الإشكالية، بأبعادها الهيكلية واللوجستية والخدمية، وعدم قدرة الناقل الجوي الداخلي بوضعيته الراهنة على استيعاب حجم الطلب الكلي على مقاعده المتاحة، حتى في الأحوال الاعتيادية، ناهيك عن مواسم الإجازات والعطلات, مروراً بالفشل في تهيئة الأجواء لمبادرات استثمارية وطنية في هذا المجال! لماذا بالتالي لا يتاح لشركات الطيران الخليجية - على الأقل - الراغبة في توسيع نطاق وجهاتها العالمية، فرص المشاركة في عمليات تشغيل خطوط الطيران السعودي الداخلي. من منطلق التكامل الاقتصادي والتجاري بين منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية. بما لا يتعارض البتَّة مع الأهداف والمنطلقات الوطنية. وقد طالبت أكثر من مرة - وطالب كثيرون - بضرورة العمل في هذا الاتجاه، أُسوة بما جرى في مجال الاتصالات، والذي أسهم بشكلٍ فعَّال في تحسين المنتجات والخدمات الاتصالية. فالمهم في الأمر كله ألا يتضرر مواطنو هذا الوطن العزيز.
لماذا يتأخر لدينا اتخاذ قرارات المعالجة، حتى تستفحل المشكلات، وتزداد حِدَّة الأزمات، وتشتد معاناة أبناء الوطن، وتتقطع بهمُ السُّبُل. فهذه رياض العز تئن تحت وطأة زحمة السَّير، واختناقاته الحادَّة، حتى أضحت حكاية على كل لسان في داخل الوطن وخارجه. على الرغم من أنَّ مشروعات النقل العام والقطار الكهربائي العتيد، جاهزة للتطبيق والتنفيذ. ولكن القرار مؤجل. مثل ما هو كذلك بما يخص إشكالية الناقل الجوي الداخلي، وتنمية الاستثمار والتوظيف في خطوطه. ممَّا يقود إلى تساؤلٍ آخر حول مدى اهتمام متخذي القرار في بعض مؤسساتنا وهيئاتنا بمراعاة احتياجات المواطن واستشعار معاناته.
وأخيراً لماذا لم يمارس مجلس الشورى، والذي يفترض أن يكون صوت الشعب وضميره، أدواره التشريعية والرقابية المنوطة به, ومساءلة الجهات والهيئات المشرفة على سوق الطيران في المملكة عن فشلها في إدارة مهامها على النحو الذي يحقق مصالح البلاد والعباد، ويرفع عنهم الحرج والمشقة. ويسهم بالضرورة في الاستجابة للزيادات المطّرِدة في حجم الطلب الكلي المحلي على مقاعد الناقل الجوي الداخلي.
د. عبد المجيد بن محمد الجلاَّل