قبل سنوات ليست بالبعيدة كنت أحث الخطى للعودة لمنزل الأسرة غير البعيد عن سوق المقيبرة الشعبي الذي أغدو إليه مثل الكثيرين في تلك الأيام لتمضية بعض الوقت وشراء بعض المستلزمات الشخصية أو اللازمة للأسرة، وأثناء أوبتي في أحد الأيام لفت انتباهي وجود امرأة طاعنة في السن تفترش الأرض وتضع أمامها زنابيل ملأى بالهبيد، ولمن لا يعرف الهبيد من جيل الهمبوجر والشيبس فقد كان فصفص وتسلية الآباء والأجداد في زمانهم، ثم حل محله الفصفص والذي لا يزال سوقه عامراً إلى حد ما؛ والهبيد يستخرج من نبتة يقال لها نبتة الشري تكثر في الصحارى والمزارع في بعض فصول السنة، وتنتج ما تسميه العامة الحدج، وهو ثمر أشبه بثمر الحبحب في بداية تكونه، ويكون مدوراً وبعضه مقلماً كما يكون الحبحب المدور عند بداية نموه، وفي البداية يكون أخضر اللون وعند استواء ثمره يتغير إلى اللون الأصفر؛ ويجمعه محبوه ويكسرونه ويستخرجون بذوره.. وسمعت أنه يحفر له في الأرض ويوضع في هذه الحفرة لمدة ثلاثة أيام ويغطى بالرماد ثم يستخرج وينقع في الماء لأيام آخر ويغسل عدة مرات ثم يطبخ بعد إضافة الملح له فيصير إلى ما يعرف بالهبيد، وهو صغير وأسود اللون وطعم أقراصه لذيذ جداً لمن يوسع الصدر ويريد تمضية الوقت والتسلية لوحده أو مع من يأنس بهم؛ وتقول العامة إنك إذا وطأت قدماك ثمرة شجرة الشري وكسرتها برجلك وأنت حافي القدمين وتسرب مائها إلى داخل قدمك فإنه قد يتسبب لك في أذى وإسهال لا تحمد عقباه، بل ربما تموت من المادة السمية فيه، والبعض يعتقد أن في هذه الشجرة دواء لبعض الأدواء وليت من يجري عليها بحوثاً معمقة ينبئ بما فيها، فلم يخلق الله في كونه شيئاً عبثاً أو باطلاً وسبحان علام الغيوب.
عوداً على بدء فقد تسمرت واقفاً لبرهة من الزمن أمام بائعة الهبيد استعيد ذكريات الطفولة عندما كنا نلحظه بين فينة وأخرى بين أيدي الكبار وفي جيوبهم، وانطلق لساني بعد جفاف حلقي لأتطفل على هذه العجوز المسكينة والتي تتكسب رزقها ورزق من تعول من صنع وبيع الهبيد فبادرتها قائلاً كم صاع الهبيد يا خالة وكان الكيل في ذلك الزمان إما بالوزنة أو الصاع وظننت أن الإجابة سوف تأتي بعشرة ريالات فقط أو عشرين ريالاً إذا بلغ السيل الزبى ولكنها صدمتني بأن قالت الصاع بمئتي ريال فوليت لا ألوي على شيء لأنه ليس في جيبي مبلغ كهذا وكان مبلغاً كبيراً آنذاك تستطيع بنصفه أن تشتري قوت أسرتك ليوم كامل أو أكثر من الفاكهة والخضار وكان الناس يقولون لو جلبت حمى في المقيبرة لاشتراها الناس منك، واستمررت أحث الخطى قافلاً نحو محضن الأسرة الدافئ وأنا أبلع ريقي وأحلم بحفنة هبيد!.